الإمامة : ـ لغة ـ مصدر على زنة ( فِعالة ) المضاعف ، يقال : أَمَّ القوم و بالقوم يؤُمهم أَمَّاً و إماماً و إمامة ، مثل : كتب يكتب كَتْباً و كِتاباً و كتابة .
و اسم الفاعل من الفعل ( أم يؤم ) : ( آم ) ، ( أصله آمم ) ثم ادغم مثلاه .
و لكن غلب استعمال المصدر فيه فقيل : إمام ـ بصيغة المذكر ـ للمذكر و المؤنث ، و يجمع على ( أيمة ) بالياء ، و ( أئمة ) بالهمزة .
و معناه ـ معجمياً ـ : القدوة ، أو من يقتدى به في قوله أو فعله ، سواء كان محقاً أو مبطلاً .
و استعمل في القرآن الكريم في الإمام المحق كما في قوله تعالى : ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ... ﴾ 1 ، و في الإمام المبطل كما في قوله تعالى ﴿ ... فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ... ﴾ 2
و كلامياً :
عرّف النصير الطوسي الإمامة بقوله : " الإمامة : رياسة عامة دينية مشتملة على ترغيب عموم الناس في حفظ مصالحهم الدينية و الدنياوية و زجرهم عما يضرهم بحسبها " 3 .
و عرفها العلامة الحلي بقوله : " الإمامة : رياسة عامة في أمور الدين و الدنيا لشخص من الاشخاص نيابة عن النبي ـ صلى الله عليه و آله و سلم ـ " 4 .
و عرفها العضد الايجي بقوله : " هي خلافة الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) في إقامة الدين بحيث يجب اتباعه ( يعني الإمام ) على كافة الأمة " 5 .
و عرفها الماوردي بما نصه : " الإمامة : موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين و سياسة الدنيا " 6 .
و بإلقاء شيء من الضوء على هذه التعاريف المذكورة و أمثالها يتبين لنا أن الشيعة يؤكدون على أن الإمامة تشمل في وظيفتها السلطتين : الروحية و الزمنية .
و بتعبير قانوني مدني : السلطتين : الدينية و المدنية ( السياسة ) ، و ذلك لأن السنة ـ كما سنرى ـ قصروا وظيفة الإمامة في الشؤون السياسية .
و في هذا الضوء يأتي تعريف الإيجي ـ و هو من أعلام متكلمة السنة ـ غير موائم لما ذهبوا إليه .
و اختلف في الإمامة : هل هي من أصول الدين أو من فروعه ؟ .
ذهب إلى الأول أصحابنا الإمامية ، قال استاذنا الشيخ المظفر : " نعتقد أن الإمامة أصل من أصول الدين " 7 .
و ذهب إلى الثاني أهل السنة ، قال العضد الايجي : " المرصد الرابع في الإمامة و مباحثها : عندنا من الفروع ، و إنما ذكرناها في علم الكلام تأسياً بمن قبلنا " 5 .
و قال الآمدي : " و اعلم أن الكلام في الإمامة ليس من أصول الديانات " 8 .
و كما اختلف في أن الإمامة أصل أو فرع ، اختلف أيضاً في وجوبها و نفيه .
بمعنى : هل يلزم نصب إمام للمسلمين أو لا يلزم ؟ ؟ .
فذهب بعض الخوارج إلى انها غير واجبة . .
و ذهب الباقون من الفرق الإسلامية إلى وجوبها .
و اختلف القائلون بوجوبها في دليله ( أعني دليل وجوب نصب الإمام ) على قولين
1 ـ ذهب أهل السنة :
إلى أن نصب الإمام واجب سمعاً لا عقلاً ، أي أن دليل الوجوب هو النقل لا العقل .
2 ـ ذهب المعتزلة و الشيعة :
إلى أن نصب الإمام واجب عقلاً ، أي أن دليل الوجوب دليل عقلي .
ثم اختلف القائلون بالوجوب العقلي في من يجب عليه نصب الإمام على قولين :
1 ـ ذهب المعتزلة إلى انه واجب على العقلاء ( أي الناس ) ، و مثلهم في هذا أهل السنة .
2 ـ ذهب الإمامية و الإسماعيلية إلى انه واجب على اللّه .
و اختلف القائلون بوجوبه على اللّه في الغاية و الغرض من الوجوب على قولين هما :
1 ـ ذهب الإمامية : انه لحفظ قوانين الشرع .
2 ـ ذهب الإسماعيلية ليكون معرفاً للّه تعالى .
و يمكننا أن نلخص هذه الأقوال بالتالي :
الإمامة او نصب الإمام
غير واجب ، واجب
على الناس ، على اللّه
و نخلص من هذه أيضاً إلى أن في المسألة قولين رئيسين هما :
1 ـ إن نصب الإمام يتم عن طريق اختيار الناس له . و هو قول المعتزلة و السنة و الاباضية .
2 ـ إن نصب الإمام يتم عن طريق تعيينه بالنص عليه من قبل اللّه تعالى ، و هو قول الشيعة .
بيان دليل أهل السنة :
قال العضد الايجي : " و أما وجوبه علينا سمعاً فلوجهين :
الأول : أنه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) على امتناع خلو الوقت عن إمام ، حتى قال أبو بكر ( رض ) في خطبته : ( ألا إن محمداً قد مات ، و لا بد لهذا الدين ممن يقوم به ) فبادر الكل إلى قبوله ، و تركوا له أهم الأشياء ، و هو دفن رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) .
ولم يزل الناس على ذلك في كل عصر إلى زماننا هذا من نصب إمام متبع في كل عصر .
فان قيل : لا بد للإجماع من مستند ، و لو كان ، لَنُقِلَ ، لتوفر الدواعي .
قلنا : استغني عن نقله بالإجماع ، أو كان من قبيل ما لا يمكن نقله من قرائن الأحوال التي لا يمكن معرفتها إلا بالمشاهدة و العيان لمن كان في زمن النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) .
الثاني : أن فيه دفع ضرر مظنون و أنه واجب إجماعاً .
بيانه : أنا نعلم علماً يقارب الضرورة أن مقصود الشارع فيما شرع من المعاملات و المناكحات و الجهاد و الحدود و المقاصات و إظهار شعار الشرع في الاعياد و الجمعات ، إنما هو مصالح عائدة إلى الخلق معاشاً و معاداً ، و ذلك لا يتم إلا بإمام يكون من قبل الشارع يرجعون إليه فيما يعن لهم ، فإنهم ـ مع اختلاف الأهواء و تشتت الآراء ، و ما بينهم من الشحناء ـ قلما ينقاد بعضهم لبعض ، فيفضي ذلك إلى التنازع و التواثب ، و ربما أدّى إلى هلاكهم جميعاً ، و يشهد له التجربة ، و الفتن القائمة عند موت الولاة إلى نصب آخر ، بحيث لو تمادى لعطلت المعايش ، و صار كل أحد مشغولاً بحفظ ماله و نفسه تحت قائم سيفه ، و ذلك يؤدي إلى رفع الدين و هلاك جميع المسلمين .
فان قيل : و فيه اضرار ، و أنه منفي بقوله عليه السلام : ( لا ضرر و لا ضرار في الاسلام ) .
و بيانه من ثلاثة أوجه :
الأول : تولية الإنسان على من هو مثله ليحكم عليه فيما يهتدي إليه و فيما لا يهتدي إضرار به لا محالة .
الثاني : قد يستنكف عنه بعضهم كما جرت به العادة ، فيفضي إلى الفتنة .
الثالث : أنه لا يجب عصمته ـ كما سيأتي ـ فيتصور منه الكفر و الفسوق ، فان لم يعزل أضر بالأمة بكفره و فسقه ، و ان عزل أدى إلى الفتنة .
قلنا : الاضرار اللازم من تركه أكثر بكثير ، و دفع الضرر الأعظم عند التعارض واجب " 9 .
بيان دليل الشيعة :
قال الفاضل المقداد : إن الإمامة لطف ، و كل لطف واجب على اللّه ، فالإمامة واجبة على اللّه تعالى .
أما الكبرى فقد تقدم بيانها .
و أما الصغرى فهو أن اللطف ـ كما عرفت ـ ما يقرب العبد إلى الطاعة و يبعده عن المعصية ، و هذا المعنى حاصل في الإمامة .
و بيان ذلك : أن من عرف عوايد الدهماء و جرب قواعد السياسة ، علم ضرورةً أن الناس إذا كان لهم رئيس مطاع مرشد فيما بينهم يردع الظالم عن ظلمه و الباغي عن بغيه و ينتصف للمظلوم من ظالمه ، و مع ذلك يحملهم على القواعد العقلية و الوظائف الدينية و يردعهم عن المفاسد الموجبة لاختلال النظام في امور معاشهم و عن القبائح الموجبة للوبال في معادهم بحيث يخاف كل مؤاخذته على ذلك ، كانوا مع ذلك إلى الصلاح أقرب و من الفساد أبعد ، و لا نعني باللطف إلا ذلك ، فتكون الإمامة لطفاً و هو المطلوب .
و اعلم : أن كل ما دل على وجوب النبوة فهو دال على وجوب الإمامة ، إذ الإمامة خلافة عن النبوة ، قائمة مقامها إلا في تلقي الوحي الإلهي بلا واسطة ، و كما أن تلك واجبة على اللّه تعالى في الحكمة ، فكذا هذه " 10 .
و يرجع هذا الاختلاف بين المذهبين الشيعي و السني إلى مدى سعة و ضيق جهة الالتقاء بين النبوة و الإمامة .
ذلك أن الشيعة يرون أن الإمامة في وظيفتها هي امتداد للنبوة ، فكما كانت وظيفة النبي تتمثل في ممارسته للسلطتين الدينية و السياسية ، و ان السلطة السياسية هي من الدين و ليست اجتهاداً من النبي لأن النبي ـ في رأيهم ـ غير ممكن أن يرجع إلى اجتهاد ، لأن الاجتهاد عرضة للخطأ ، و لأن نتائجه ظنية ، و النبي معصوم ، و المعصوم لا يخطأ .
مضافاً إليه : أن أحكامه التي يقوم بتطبيقها بصفته رئيساً للدولة ، أي سياسياً ، هي أحكام واقعية ، بمعنى أنها علم يقيني لا مجال للظن فيها ، لأنها نابعة من انكشاف واقع القضية لديه موضوعاً و حكماً لا من استخدامه وسيلة الاجتهاد التي قد تصيب و قد تخطئ ، و ذلك لاتصاله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) بالوحي ، و عدم صدور أي سلوك منه لا يلتقي مع ما يوحي به إليه ، فهو في الواقع لا يحتاج إلى الاجتهاد ، لان الاجتهاد طريق موصل إلى الحكم لدى من ليس له طريق آخر مأمون العثار و الخطأ و مضمون الإصابة و الوصول إلى الحكم بواقعه و هو طريق الوحي .
كذلك وظيفة الإمامة تتمثل في ممارسة الإمام للسلطتين الدينية و السياسية .
بينما ذهب أهل السنة إلى أن الإمامة وظيفة سياسية تعتمد على اجتهاد الإمام ، كما كان الرسول ـ كما يرون ـ يعتمد في سياسته بصفته رئيساً للدولة على اجتهاده ، ذلك انهم " فرقوا بين أحكام الدين و أحكام السياسة ، و مالوا إلى اعتبار الرسول مجتهداً في الشؤون السياسة و كل ما يتصل بسلطته الزمنية ، يقول ابن القيم : السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح و أبعد عن الفساد ، و ان لم يضعه الرسول و لا نزل به وحي ، و من قال لا سياسة إلا بما نطق به الشرع فقد غَلَطَ و غَلّطَ الصحابة " 11 .
فالسنة ـ كما هو واضح مما تقدم ـ يفصلون بين أحكام الدين و أحكام السياسة كالذي هو معروف حالياً في الفكر القانوني المعاصر ، و الذي يوسم بـ ( نظرية الفصل بين الدين و الدولة ) .
و نخلص من هذا إلى أن الشيعة انما قالوا بان وجوب نصب الإمام بالنص أو التعيين من اللّه ، لأن الإمام عندهم امتداد لوظيفة النبوة روحياً و سياسياً ، فكما أن النبي يعين من قبل اللّه تعالى كذلك الإمام .
أما السنة فلأنهم فصلوا بين السلطتين الروحية و الزمنية و اعتبروا الإمام قائماً بوظيفة النبي الزمنية أو السياسية ، و هي تعتمد الاجتهاد ، قالوا يتم نصبه عن طريق اختيار الناس له .
و حاول الدكتور احمد محمد صبحي في كتابه ( الزيدية ) أن يدافع عن أهل السنة و يدفع عنهم القول بالفصل بين الدين و الدولة بقوله : " على أنه من الخطأ تصور موقف أهل السنة فصلاً بين السياسة و الدين ، و إنما هو مجرد تفرقة بين شرعٍ مصدره الكتاب و السنة و سياسةٍ قائمة على الاجتهاد الذي هو بدوره مصدر من مصادر التشريع في الإسلام ، ولم يُعرف الفصل التام بين السياسة و الدين إلا بعد سقوط الخلافة العثمانية ، و بتأثير من الفكر السياسي الأوربي " 12 .
و المستغرب من الدكتور صبحي أنه لم يفرق بين المصدر و الوسيلة ، فاعتد الاجتهاد ـ و هو وسيلة ينتهجها المجتهد لاستنباط و استخراج الحكم الشرعي من مصدره و هما الكتاب و السنة ـ مصدراً من مصادر التشريع .
و ظني أنه التبس الأمر عليه بين القياس و أمثاله من مصادر أخرى غير الكتاب و السنة ، و بين الاجتهاد ، ولم يدرك أن الاجتهاد طريقة يستخدمها المجتهد لأخذ الحكم من هذه المصادر .
فالقياس و الإجماع و الاستحسان و أمثالها أمور قائمة في واقها كالكتاب و السنة ، و الفارق ان من لم يكن مجتهداً لا يقوى على استفادة الحكم منها ، و بعكسه من كان مجتهداً فانه يستطيع اذا استعمل اجتهاده أن يستفيد الحكم منها .
و بالإضافة إلى ما تقدم استدل كل من الشيعة و السنة بالقرآن الكريم على رأيه في وجوب نصب الإمام بالتعيين الإلهي أو الاختيار من قبل الناس .
دليل السنة :
استدل أهل السنة بقوله تعالى : ﴿ ... وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ... ﴾ 13 .
و الشورى ـ لغة ـ اسم من المشاورة ، يقال : شورى و مشاورة و تشاور و مَشُوْرَةَ ـ بضم الشين و سكون الواو ـ و مَشْوَرَة ـ بسكون الشين و فتح الواو ـ .
و تعني المفاوضة في الكلام بمراجعة البعض إلى البعض لاستخراج الرأي .
و هي من قولهم ( شرت العسل ) إذا اتخذته من موضعه و استخرجته منه .
و تطلق أيضاً على الأمر الذي يتشاور فيه ، يقال : ( صار هذا الشيء شورى بين القوم ) إذا تشاوروا فيه .
و ذكر في سبب نزول الآية الكريمة أن الأنصار كانوا قبل قدوم النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) المدينة المنورة إذا أرادوا أمراً تشاوروا فيه ثم عملوا عليه ، فمدحهم اللّه تعالى به .
و تقرير الاستدلال بها :
أن الآية الكريمة مطلقة لأن مورد النزول هنا ليس بقرينة مقيدة .
و الإطلاق يقتضي حملها على كل أمر يطلب فيه التشاور ما عدا الأحكام و الحدود الشرعية لأنها خارجة بالتخصص لدليل العقل القاضي بان عدم خروجها من هذا الإطلاق يستلزم إلغاء تشريعها .
و لأن الخلافة لم يرد فيها نص شرعي يبين كيفيتها و شروطها و مواصفاتها تندرج تحت ما يطلب فيه المشورة أو الشورى .
و الذي يلاحظ على هذا الاستدلال :
1 ـ إن الآية ليست في مقام التشريع ، و إنما هي في مقام بيان أهمية و قيمة التشاور في الأمور العامة التي تتطلب ذلك .
و هذا يقتضينا عدم الأخذ بها إذا كان في القرآن الكريم ما يفاد منه تشريع الخلافة كما في الآية الآتية التي استدل بها الشيعة على ذلك .
2 ـ إن الآية لم تبين من الذين يقتضي أن يقوموا بمهمة التشاور ، و عليه لا بد من الاحتياط المبرئ لذمة المكلف من مسؤولية التكليف و الخروج من عهدتها بجمع كل الأطراف المعنية و إدخالها في عملية التفاوض و التشاور .
و هذا ما لم يتحقق تاريخياً منذ اختيار أول خليفة حتى عهدنا الحاضر ، و الأمر من الوضوح بمكان لا يفتقر معه إلى إقامة دليل .
دليل الشيعة :
و استدل الشيعة بقوله تعالى : ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ 14 .
و تقرير الاستدلال بالآية الكريمة :
1 ـ أن الآية صريحة في أن الإمامة لا تكون لأحد إلا بجعل من اللّه تعالى ، أي بتعيين منه .
2 ـ ان الإمامة عهد اللّه ، أي مسؤولية إلهية مهمة فلا تناط إلا بمن لديه أهلية القيام بها ، و هي أن يكون غير ظالم لنفسه أو لغيره ، و هذا لا يتحقق إلا إذا كان الإمام معصوماً ، لأن العصمة ملكة ثابتة و دائمة ، و بعكسها العدالة فانها قابلة للحدوث و التجدد ، ففي حالة زوالها تزول معها الإمامة ، لأن المشروط عدم عند عدم شرطه .
و جاء في بعض تفسيرات الآية : أن المراد بالإمامة هنا النبوة ، و رده السيد الطباطبائي بقوله : قوله تعالى : ﴿ ... إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ... ﴾ 15 أي مقتدى يقتدي بك الناس ، و يتبعونك في أقوالك و أفعالك .
فالإمام هو الذي يقتدي و يأتم به الناس ، و لذلك ذكر عدة من المفسرين أن المراد به النبوة ، لأن النبي تقتدي به أمته في دينهم ، قال تعالى : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ... ﴾ 16 ، لكنه في غاية السقوط .
أما أولاً ، فلأن قوله : ( إماماً ) مفعول ثانٍ لعامله الذي هو قوله : ( جاعلك ) و اسم الفاعل لا يعمل إذا كان بمعنى الماضي ، و إنما يعمل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال ، فقوله : ﴿ ... إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ... ﴾ 15 و عدله ـ عليه السلام ـ بالإمامة في ما سيأتي ، مع أنه وحي لا يكون إلا مع نبوة ، فقد كان ( عليه السلام ) نبياً قبل تقلده الإمامة ، فليست الإمامة في الآية بمعنى النبوة ( ذكره بعض المفسرين ) .
و أما ثانياً : فلأنا بيّنا في صدر الكلام : أن قصة الإمامة إنما كانت في أواخر عهد إبراهيم ( عليه السلام ) بعد مجيء البشارة له بإسحق و إسماعيل ، و إنما جاءت الملائكة بالبشارة في مسيرهم إلى قوم لوط و إهلاكهم ، و قد كان إبراهيم حينئذٍ نبياً مرسلاً ، فقد كان نبياً قبل أن يكون إماماً ، فإمامته غير نبوته " 17 .
و في حديث الإمام الصادق ( عليه السلام ) : " و قد كان إبراهيم نبياً و ليس بإمام حتى قال اللّه : ﴿ ... إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ 15 من عَبَدَ صنماً أو وثناً لا يكون إماماً " 18 . و ذلك تطبيقاً منه عليه السلام للآية الكريمة : ﴿ ... إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ 19 .
و لان أبا بكر الصديق ( رض ) كان قبل إسلامه مشركاً لا يكون ـ كما يرون ـ مؤهلاً للإمامة الإلهية .
و من هنا كان النص من اللّه تعالى على الإمام علي ( عليه السلام ) لأنه لم يسبق منه شرك أو ظلم لنفسه بالشرك أو بغيره .
و ما دمنا وصلنا إلى هذا لا بأس بصرف عنان البحث إلى ذكر أدلة كل من الطرفين على الإمام الخاص بعد النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) .
أدلة السنة على إمامة أبي بكر :
1 ـ النص الجلي :
استدل السنة الذين يرون أن النبي نص على أبي بكر نصاً جلياً بالحديث المشهور و هو :
( إن امرأة أتت إلى النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) لتسأله أمراً من الأمور فأجابها و طلب منها أن ترجع إليه متى أرادت ، فقالت : أرأيتَ أن جئتُ فلم أجدك ؟ قال : إن لم تجديني فأتي أبا بكر ) .
و بالحديث الآخر :
( اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر و عمر ) .
و بحديث أبي هريرة :
( قال : سمعت رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) قال : بينما أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو ، فنزعت منها ما شاء اللّه ، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوباً أو ذنوبين ، و في نزعه ضعف ، واللّه يغفر له ضعفه ، ثم استحالت غرباً ، فأخذها عمر بن الخطاب ، فلم أر عبقرياً من الناس ينزع نزع عمر حتى ضرب الناس بعطن ) .
2 ـ النص الخفي :
و استدل أهل السنة الذين يذهبون إلى أن إمامة أبي بكر ثبتت بالنص الخفي بالواقعة المشهورة ، و هي :
" إن الرسول في أثناء مرضه أمر أن يؤم أبو بكر المسلمين في الصلاة ، و الصلاة هي الإمامة الصغرى .
فأولى به أن يكون هو صاحب الإمامة الكبرى إمامة المسلمين دنيا و ديناً " .
و يؤخذ عليهما :
أن الاستدلال بالنص يتنافى و ما ذهب إليه جمهورهم من أن النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) لم يستخلف ، ولم ينص على أحد بالخلافة .
و عليه :
لا ريب في أنها اختلقت ليعارض بها النصوص الواردة في استخلاف علي و النص عليه من قبل النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) بالإمامة .
3 ـ الشورى :
و هو رأي جمهور أهل السنة الذين يذهبون إلى أن رسول اللّه ترك أمر الإمامة لاجتهاد المسلمين .
" و رأى المسلمون أن أبا بكر هو ثاني اثنين إذ هما في الغار ، و أول من آمن من الرجال ، ثم رجل الصحبة الطويلة : و أخيراً عهد إليه الرسول بالصلاة الإمامة الصغرى ، فقاسوا الأمر بأن تكون له الإمامة الكبرى " 20 .
كانت هذه مبررات اختياره للإمامة و مبايعته بها .
هذا ما يذكره متأخرو علماء السنة ، و بتعبير أدق : المعاصرون منهم .
و لكن التاريخ الكلامي أو العقائدي لقضية الإمامة أو الخلافة ، يقول في الحادثة و تبريرها غير هذا .
فقد جاء في كتاب ( الملل و النحل ) للشهرستاني ـ و هو من أعلام السنة ـ ما نصه : " اختلف المهاجرون و الأنصار فيها ( يعني الإمامة ) فقالت الأنصار : منا أمير و منكم أمير ، و اتفقوا على رئيسهم سعد بن عبادة الأنصاري ، فاستدركه أبو بكر و عمر ـ رضي اللّه عنهما ـ في الحال بان حضرا سقيفة بني ساعدة ، و قال عمر : كنت أزوّر 21 في نفسي كلاماً في الطريق ، فلما وصلنا إلى السقيفة أردت أن أتكلم فقال أبو بكر : مه 22 يا عمر ، فحمد اللّه و أثنى عليه ، و ذكر ما كنت أقدره في نفسي كأنه يخبر عن غيب ، فقبل أن يشتغل الأنصار بالكلام مددت يدي إليه فبايعته و بايعه الناس و سكنت الفتنة ، ألا إن بيعة أبي بكر كانت فلتة 23 ، وقى اللّه المسلمين شرها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ، فأيما رجل بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فانهما تَغِرَّة 24 يجب أن يقتلا .
و إنما سكنت الأنصار عن دعواهم لرواية أبي بكر عن النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : ( الأئمة من قريش ) .
و هذه البيعة هي التي جرت في السقيفة .
ثم لما عاد إلى المسجد انثال 25 الناس عليه و بايعوه عن رغبة ، سوى جماعة من بني هاشم ، و ابي سفيان من بني أمية ، و أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي اللّه عنه ـ كان مشغولاً بما أمره النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) من تجهيزه و دفنه و ملازمة قبره من غير منازعة و لا مدافعة " 26 .
و كما هو واضح من النص هذا : أن الشورى لم تتحقق تاريخياً فلم يكن في السقيفة اجتماع شامل أو على الأقل واف لمن له حق المشورة و إبداء الرأي ممن يعرفون بأهل الحل و العقد .
ولم يدر بين من حضروا مشاورة و مفاوضة و مداولة في ترشيح من يستحقها من المسلمين .
و إنما كانت مبادرة و كسب موقف من الشيخين ( رض ) لئلا تكون الإمامة في الأنصار .
و مع كل هذا و غيره استطاع مبدأ الشورى ـ بصفته النظرية لا التطبيقية لأنه لم ير النور تطبيقياً ـ ان يهيمن على الجو الفكري و العقائدي مدة خلافة الخلفاء الثلاثة .
و بدأت قوة سيطرته و تأثيرها من قولة عمر : " إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى اللّه المسلمين شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ، فايما رجل بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فانهما تغرة يجب أن يقتلا " . . حتى لم يستطع بنو هاشم ـ و هم رهط رسول اللّه ـ إثارة الاحتجاج بالنص .
و استمرت تغذية هذا المبدأ سياسياً خلال هذه المدة لئلا يكون من علي و آل علي شيء يعترضه أو يعارضه ، إلى أن تسلم الإمام علي زمام الحكم بعد مقتل عثمان ، فبرز الاحتجاج منه بالنص .
و لعل أول ما كان منه هذا عندما جمع الناس في ( الرحبة ) فقال : ( انشد اللّه كل امرئ مسلم سمع رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) يقول يوم غدير خم ما قال إلا قام فشهد بما سمع ، و لا يقم إلا من رآه بعينيه و سمعه بإذنيه ) فقام ثلاثون صحابياً فيهم اثنا عشر بدرياً فشهدوا ، أنه أخذه بيده فقال للناس : أتعلمون اني أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا : نعم ، قال ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : من كنت مولاه فهذا مولاه ، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه ) 27 .
و إلى جانبه أثار ( عليه السلام ) فكرة التوضيح لما ينبغي أن يكون عليه مبدأ الشورى ، و ذلك في كتابه إلى معاوية ـ الآتي نصه ـ .
و أراد بهذا إلزام معاوية بما ألزم المسلمون به أنفسهم آنذاك ، و بخاصة أن الإمام ( عليه السلام ) ضمّن كتابه ما جاء في خطاب عمر ( رض ) من أن الخارج عما انتهى إليه أمر الخلافة يقتل .
قال ( عليه السلام ) : " أما بعد فان بيعتي بالمدينة لزمتك و أنت بالشام ، لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان على ما بويعوا عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار و لا للغائب أن يرد ، و انما الشورى للمهاجرين و الأنصار فإذا اجتمعوا على رجل فسموه إماماً كان ذلك رضا ، فان خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة ردوه إلى ما خرج منه ، فأن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين و ولاه اللّه ما تولى و يصليه جهنم و ساءت مصيرا ً " .
ثم يختم الإمام كتابه هذا بقوله : " و اعلم بأنك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة و لا تعرض فيهم الشورى " 28 .
و كأن الإمام ( عليه السلام ) يشير بهذا إلى شرط الإمامة الأساسي الذي جاء في قوله تعالى ﴿ ... لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ 15 .
أدلة الشيعة على إمامة علي :
استدل الشيعة على إمامة علي بعدة نصوص منها :
1 ـ حديث الغدير :
و قد دوّن هذا الحديث في غير كتاب من الكتب المعتبرة ، و روي بغير طريق من الطرق المختلفة صحاحاً و حساناً و سواها .
و نص على تواتره غير واحد من الأعلام ، من أحدثهم السيد الطباطبائي قال : " و أما حديث الغدير ـ أعني قوله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) ـ فهو حديث متواتر منقول من طرق الشيعة و أهل السنة بما يزيد على مئة طريق " 29 .
و نصه كما أخرجه الإمام احمد بن حنبل من حديث البراء بن عازب 30 من طريقين : قال : كنا مع رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) فنزلنا بغدير خم فنودي فينا الصلاة جامعة ، و كسح لرسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) تحت شجرتين ، فصلى الظهر ، و أخذ بيد علي ، فقال : ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟
قالوا : بلى .
قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم والِ من ولاه ، و عادِ من عاداه .
قال : فلقيه عمر بعد ذلك ، فقال له : هنيئاً يا بن أبي طالب أصبحت و أمسيت مولى كل مؤمن و مؤمنة " 31 .
و تقرير الاستدلال به :
يقول الشيخ أبو علي الطبرسي : " فأما وجه الاستدلال بخبر الغدير ففيه طريقان :
أحدهما : أن نقول : إن النبي قرّر أمته في ذلك المقام على فرض طاعته فقال : ( ألستُ أولى بكم من انفسكم ) فلما أجابوه بالاعتراف و قالوا : ( بلى ) ، رفع بيد أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) و قال عاطفاً على ما تقدم : ( من كنت مولاه فهذا مولاه ) ـ و في روايات أخر ( فعلي مولاه ) ـ ( اللهم وال من والاه و عادِ من عاداه ، و انصر من نصره و اخذل من خذله ) ، فأتى عليه الصلاة و السلام بجملة يحتمل لفظها معنى الجملة الأولى التي قدّمها ، و هو أن لفظة ( مولى ) تحتمل معنى ( أولى ) و ان كانت تحتمل غيره ، فيجب أن يكون أراد بها المعنى المتقدم على مقتضى استعمال أهل اللغة .
و إذا كانت هذه اللفظة تفيد معنى الإمامة بدلالة أنهم يقولون : ( السلطان أولى بإقامة الحدود من الرعية ) و ( المولى أولى بعبده ) و ( ولد الميّت أولى بميراثه من غيره ) و قوله سبحانه : ( النبي اولى بالمؤمنين من انفسهم ) لا خلاف بين المفسرين أن المراد : أنه أولى بتدبير المؤمنين و الأمر و النهي فيهم من كل أحد منهم .
و إذا كان النبي أولى بالخلق من أنفسهم من حيث كان مفترض الطاعة عليهم و أحق بتدبيرهم و أمرهم و نهيهم و تصرفهم بلا خلاف ، وجب أن يكون ما أوجبه لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) فيكون أولى بالمؤمنين من حيث أن طاعته مفترضة عليهم و أمره و نهيه مما يجب نفوذه فيهم ، و فرض الطاعة يتحقق بالتدبير من هذا الوجه لا يكون إلا للنبي أو الإمام ، فإذا لم يكن ( عليه السلام ) نبياً وجب أن يكون إماماً .
و أما الطريقة الأخرى في الاستدلال بهذا الخبر فهي : أن لا نبني الكلام على المقدمة ، و نستدل بقوله : ( من كنت مولاه ) من غير اعتبار ما قبله ، فنقول :
معلوم أن النبي أوجب لأمير المؤمنين أمراً كان واجباً له لا محالة ، فيجب أن يعتبر ما تحتمله لفظة ( مولى ) من الأقسام و ما يصح كون النبي مختصاً به منها و ما لا يصح و ما يجوز أن يوجبه لغيره في تلك الحالة ، و ما لا يجوز .
و جميع ما تحتمله لفظة ( مولى ) ينقسم إلى أقسام :
منها ما لم يكنه عليه الصلاة و السلام ، و هو ( المعتق ) و ( الحليف ) لأنه لم يكن حليفاً لأحد ، و الحليف : الذي يحالف قبيلة و ينسب إليها ، ليتعزز بها .
و منها ما كان عليه السلام ـ و معلوم لكل أحد ـ أنه لم يرده ، و هو :
( الجار ) و ( الصهر ) و ( ابن العم ) .
و منها ما كان ، و معلوم بالدليل أنه لم يرده ، و هو : ( ولاية الدين ) و النصرة فيه و المحبة .
و مما يدل على أنه لم يرد ذلك أن كل عاقل يعلم من دينه وجوب موالاة المؤمنين بعضهم بعضاً ، و بذلك نطق القرآن ، و كيف يجوز أن يجمع ذلك الجمع العظيم في مثل تلك الحال و يخطب على المنبر المعمول من الرحال ليعلّم الناس من دينه ما يعلمونه ضرورة .
و منها ما كان حاملاً له ، و يجب أن يريده و هو ( الأولى بتدبير الأُمة و أمرهم و نهيهم ) ، لأنّا إذا أبطلنا جميع الأقسام ، و علمنا أنه يستحيل أن يخلو كلامه من معنى أو فائدة ، ولم يبق إلا هذا القسم فيجب أن يريده .
و قد بينا أن كل من كان بهذه الصفة فهو الإمام المفترض الطاعة ، و أما استيفاء الكلام فيه ففي الكتب الكبار " 32 .
ان عقد الولاية العامة التي تعني الإمامة لعلي ( عليه السلام ) من قبل رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) كان امتثالاً منه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) لوحي نزل عليه في ( غدير خم ) و هو قوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ 33 .
ففي ( أسباب النزول ) روى أبو الحسن الواحدي بسنده عن أبي سعيد الخدري : " قال : نزلت هذه الآية ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ... ﴾ 34 يوم غدير خم في علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه " 35 .
و الآية صريحة في أمر اللّه رسوله الكريم بتبليغ وحي انزل اليه من ربه .
كما انها ظاهرة بأن هذا كان بعد تمام تبليغه الرسالة الالهية التي أعلن عن إكمالها و تمامها يوم عرفة قبل وصوله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) إلى غدير خم بقوله تعالى : ﴿ ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ... ﴾ 36 .
و ظاهرة أيضاً في أن ذلك الأمر حكم جزئي ، و ذلك لأن الرسالة لانها تبليغ لعموم الناس حتى قيام الساعة تحتوي الأحكام الكلية ، و من تلكم الاحكام الكلية حكم الإمامة الذي أفدناه من آية ﴿ ... قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ... ﴾ 15 ، فيكون الأمر الجزئي هنا هو تطبيق حكم الإمامة على الشخص المؤهل لها .
و يؤيد هذا و يؤكده قوله تعالى : ﴿ ... وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ... ﴾ 34 ، لأن الناس ـ و هم العامة هنا ـ قد لا يتورعون من توجيه الاتهام إلى النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) بالمحاباة لابن عمه ، و ربما حاول من له طمع في الخلافة إفساد الأمر على الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ، فأعطاه تعالى هذا الضمان بحفظه مما قد يلاقيه من الناس حين قيامه بمهمة عقد الولاية لعلي و نصبه إماماً للمسلمين .
" ففي تفسير العياشي عن ابي صالح عن ابن عباس و جابر بن عبد اللّه : قالا : أمر اللّه تعالى نبيه محمداً أن ينصب علياً علماً في الناس ليخبرهم بولايته فتخوف رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) أن يقولوا حابى ابن عمه و أن يطعنوا في ذلك عليه ، قالا : فأوحى اللّه إليه هذه الآية ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ... ﴾ 34 فقام رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) بولايته يوم غدير خم ) 37 .
يقول الدكتور النشار بعد حديثه عن حديث الدار : " ثم هناك الحديث الهام حديث الغدير و الذي اتخذه الشيعة سنداً لأحقية علي الكاملة في خلافة المسلمين بعد رسول اللّه .
فقد خرج النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) من مكة بعد حجة الوداع ، و في الطريق نزل عليه الوحي ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ... ﴾ 34 ، و كان النبي عند غدير خم ، فأمر بالدرجات و جمع الناس في يوم قائظ شديد القيظ و دعا علياً إلى يمينه ، و خطب فقال : لقد دعيت إلى ربي و اني مغادركم من هذه الدنيا و اني تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي » ، ثم أخذ بيد علي و رفعها و قال « يا ايها الناس ألستُ أولى منكم بانفسكم ؟ قالوا : بلى ، قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم والِ من والاه و عادِ من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله و أدر الحق معه حيثما دار » ، فقال عمر : « بخ بخ ، أصبحت مولاي و مولى كل مؤمن و مؤمنة » ، ثم عاد الرسول إلى خيمته و نصب لعلي اخرى بجانبها ، و أمر المسلمين أن يبايعوه بالإمامة ، و سلموا له بإمرة المؤمنين جميعاً رجالاً و نساء 38 .
هذا هو حديث غدير خم الذي اعتقده الشيعة سنداً صريحاً لهم في القول بإمامة علي ، و قد اعترف أهل السنة جزئياً بصحة هذا الحديث و أولوه بان المقصود من ( الولاية ) هنا الولاية الروحية ، بل إننا نرى الحسن البصري ـ إمام التابعين ـ يعلن أن علياً رباني هذه الأمة .
أما السلف من الحنابلة المتقدمين فقد أوّلوا الموالاة بعدم الكراهية ، و أنكر السلف المتأخرون الحديث إنكاراً تاماً .
و من العجب أن السلف الذين يكرهون التأويل و ينكرونه ، يؤلون هنا » 39 .
و من الواضح أن هذا التأويل كان بتأثير عوامل سياسية ، لان الاعتراف بان ظاهر الحديث يدل على الإمامة الإلهية لازمه إلزام من لا يعتقد بمؤداه بالمخالفة الشرعية .
يقول أبو القاسم البجلي المعتزلي : « لو نازع علي عقيب وفاة رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) و سل سيفه لحكمنا بهلاك كل من خالفه و تقدم عليه ، كما حكمنا بهلاك من نازعه حين أظهر نفسه ، و لكنه مالك الأمر و صاحب الخلافة ، إذا طلبها وجب علينا القول بتفسيق من ينازعه فيها ، و اذا أمسك عنها وجب علينا القول بعدالة من اغضى له عليها ، و حكمه في ذلك حكم رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ، لانه قد ثبت عنه في الأخبار الصحيحة أنه قال : ( علي مع الحق ، و الحق مع علي ، يدور معه حيثما دار ) ، و قال له غير مرة : ( حربك حربي ، و سلمك سلمي ) 40 .
مع أن اقتران الولاية لعلي بولاية النبي في الحديث الشريف المذكور دليل على أنها أعم من الولاية الروحية ، لأن ولاية النبي على الانفس تعني السلطة التنفيذية إذ لا معنى أن يكون النبي ولياً على الانفس روحياً .
2 ـ حديث الكتاب :
و نصه : « لما احتضر رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) و في البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : هلم اكتبْ لكم كتاباً لن تضلوا بعده ، فقال عمر : إن النبي قد غلب عليه الوجع ، و عندكم القرآن ، حسبنا كتاب اللّه ، فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول : قربوا يكتب لكم النبي كتاباً لن تضلوا بعده ، و منهم من يقول ما قال عمر ، فلما أكثروا اللغو و الاختلاف عند النبي ، قال لهم رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : قوموا .
فكان ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول اللّه و بين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم و لغطهم » 41 .
قال السيد شرف الدين تعليقاً عليه : « و هذا الحديث مما لا كلام في صحته و لا في صدوره ، و قد رواه البخاري في عدة مواضع من صحيحه ، و أخرجه مسلم في آخر الوصايا من صحيحه أيضاً ، و رواه احمد من حديث ابن عباس في مسنده ، و سائر أصحاب السنن و الأخبار » 39 .
« و أنت إذا تأملت في قوله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : ( هلم اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده ) و قوله في حديث الثقلين : ( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي ) تعلم أن المرمى في الحديثين واحد ، و انه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) اراد في مرضه ان يكتب لهم تفصيل ما أوجبه عليهم في حديث الثقلين .
و انما عدل عن ذلك لان كلمتهم تلك التي فاجأوه بها اضطرته إلى العدول ، إذ لم يبق بعدها أثر لكتابة الكتاب سوى الفتنة و الاختلاف من بعده في أنه هل هجر فيما كتبه ـ العياذ باللّه ـ أو لم يهجر ، كما اختلفوا في ذلك و اكثروا اللغو نصب عينيه ، فلم يتسن له يومئذ اكثر من قوله لهم : ( قوموا ) ـ كما سمعت ـ ، و لو أصر فكتب الكتاب للجوا في قولهم هجر و لا وغل أشياعهم في إثبات هجره ـ و العياذ باللّه ـ فسطروا به أساطيرهم ، و ملأوا طواميرهم رداً على ذلك الكتاب و على من يحتج به .
لهذا اقتضت حكمته البالغة أن يضرب ( صلى الله عليه و آله و سلم ) عن ذلك الكتاب صفحاً لئلا يفتح هؤلاء المعارضون و أولياؤهم باباً إلى الطعن في النبوة ـ نعوذ باللّه و به نستجير ـ و قد رأى ( صلى الله عليه و آله و سلم ) أن علياً و اولياءه خاضعون لمضمون ذلك الكتاب ، سواء عليهم أكتب أم لم يكتب ، و غيرهم لا يعمل به و لا يعتبرونه لو كتب ، فالحكمة ـ و الحال هذه توجب تركه إذ لا أثر له بعد تلك المعارضة سوى الفتنة كما لا يخفى » 42 .
أئمة الإمامية :
و تتسلسل الإمامة عند الشيعة الإمامية في اثني عشر إماماً ، و هم :
1 ـ علي بن أبي طالب ت 40 هجري
2 ـ الحسن بن علي ت 50 هجري
3 ـ الحسين بن علي ت 61 هجري
4 ـ علي بن الحسين زين العابدين ت 94 هجري
5 ـ محمد بن علي الباقر ت 114 هجري
6 ـ جعفر بن محمد الصادق ت 148 هجري
7 ـ موسى بن جعفر الكاظم ت 183 هجري
8 ـ علي بن موسى الرضا ت 203 هجري
9 ـ محمد بن علي الجواد ت 220 هجري
10 ـ علي بن محمد الهادي ت 254 هجري
11 ـ الحسن بن علي العسكري ت 260 هجري
12 ـ محمد بن الحسن المهدي و 255 هجري
و استدلوا على إمامتهم بنصوص ذكرت في كتب الحديث و كتب الإمامة ، تضمن بعضها النص على الاثني عشر ، و بعضها النص على كل فرد بخصوصه .
و من هذه النصوص ما هو متواتر لفظاً ، و منها ما هو متواتر معنى .
و المبدأ المستخلص منها : أن معرفة الإمام تتم بنص السابق على اللاحق .
و بالإضافة إلى ما ذكروه من نص النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) على الجميع بأسمائهم ، و الى ما ذكرته أعلاه من نصه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) على ابن عمه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) بالخصوص استدلوا بما رواه أهل السنة في صحاحهم و مسانيدهم عن النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) من أنه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) نص على أن الأئمة إثنا عشر و كلهم من قريش .
ففي رواية البخاري : اثنا عشر أميراً كلهم من قريش .
و في رواية مسلم : اثنا عشر خليفة كلهم من قريش .
و مثلها رواية الترمذي وابن حجر و الحاكم 43 .
و في رواية احمد بن حنبل عن مسروق ، قال : كنا جلوساً عند عبد اللّه بن مسعود ، و هو يقرئنا القرآن ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : كم يملك هذه الأمة من خليفة ؟
فقال عبد اللّه : ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك .
ثم قال : نعم ، و لقد سألنا رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ، ( فقال ) : اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل » 44 .
يقول استاذنا السيد محمد تقي الحكيم : « و الذي يستفاد من هذه الروايات :
1 ـ إن عدد الأمراء أو الخلفاء لا يتجاوز الاثني عشر ، و كلهم من قريش .
2 ـ و إن هؤلاء الأمراء معينون بالنص ، كما هو مقتضى تشبيههم بنقباء بني إسرائيل لقوله تعالى : ﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ... ﴾ 45 .
3 ـ إن هذه الروايات افترضت لهم البقاء ما بقي الدين الإسلامي ، أو حتى تقوم الساعة ، كما هو مقتضى رواية مسلم السابقة ، و أصرح من ذلك روايته الأخرى في نفس الباب : « لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان » .
و إذا صحت هذه الاستفادة فهي لا تلتئم إلا مع مبنى الإمامية في عدد الأئمة و بقائهم و كونهم من المنصوص عليهم من قبله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ، و هي منسجمة جداً مع حديث الثقلين و بقائهما حتى يردا عليه الحوض .
و صحة هذه الاستفادة موقوفة على أن يكون المراد من بقاء الأمر فيهم بقاء الإمامة و الخلافة ـ بالاستحقاق ـ لا السلطة الظاهرية .
لأن الخليفة الشرعي خليفة يستمد سلطته من اللّه ، و هي في حدود السلطة التشريعية لا التكوينية ، لان هذا النوع من السلطة هو الذي تقتضيه وظيفته كمشرع ، و لا ينافي ذلك ذهاب السلطنة منهم في واقعها الخارجي لتسلط الآخرين عليهم .
على أن الروايات تبقى بلا تفسير لو تخلينا عن حملها على هذا المعنى ، لبداهة أن السلطة الظاهرية قد تولاها من قريش أضعاف أضعاف هذا العدد ، فضلاً عن انقراض دولهم و عدم النص على أحد منهم ـ أمويين و عباسيين ـ باتفاق المسلمين .
و من الجدير بالذكر أن هذه الروايات كانت مأثورة في بعض الصحاح و المسانيد قبل أن يكتمل عدد الأئمة ، فلا يحتمل أن تكون من الموضوعات بعد اكتمال العدد المذكور ، على أن جميع رواتها من أهل السنة و من الموثوقين لديهم .
و لعل حيرة كثير من العلماء في توجيه هذه الأحاديث و ملاءمتها للواقع التاريخي ، كان منشؤها عدم تمكنهم من تكذيبها ، و من هنا تضاربت الأقوال في توجيهها و بيان المراد منها .
و السيوطي « بعد أن أورد ما قاله العلماء في هذه الأحاديث المشكلة خرج برأي غريب نورده هنا تفكهة للقراء ، و هو : ( و على هذا فقد وجد من الإثني عشر : الخلفاء الأربعة و الحسن و معاوية و ابن الزبير و عمر بن عبد العزيز و هؤلاء ثمانية و يحتمل أن يضم إليهم المهدي من العباسيين ، لأنه فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أمية ، و كذلك الظاهر لما أويته من العدل ، و بقي الاثنان المنتظران احدهما : المهدي لأنه من أهل بيت محمد ) ولم يبين المنتظر الثاني ، و رحم اللّه من قال في السيوطي : انه حاطب ليل 46 » .
و ما يقال عن السيوطي ، يقال عن ابن روزبهان في دره على العلامة الحلي ، و هو يحاول توجيه هذه الأحاديث 47 .
و الحقيقة أن هذه الأحاديث لا تقبل توجيهاً إلا على مذهب الإمامية في أئمتهم .
و اعتبارها من دلائل النبوة في صدقها عن الأخبار بالمغيبات ، أولى من محاولة إثارة الشكوك حولها كما صنعه بعض الباحثين المحدثين متخطياً في ذلك جميع الاعتبارات العلمية ، و بخاصة بعد أن ثبت صدقها بانطباقها على الأئمة الإثني عشر ( عليه السلام ) » 39 .
أئمة السنة :
أما السنة فتتسلسل الإمامة عند جمهورهم بالخلفاء الراشدين و الحكام الأمويين و الحكام العباسيين و بمن ولي أمر حكمهم تحت عنوان الخلافة و امرة المؤمنين .
أئمة الزيدية :
و ذهب الزيدية إلى أن الإمامة في علي و الحسنين من بعده ، ثم في أهل البيت من بعدهما لقوله ( عليه السلام ) : « الأئمة في قريش في هذا البطن من هاشم » ، و لإجماع أهل البيت على ذلك .
و تسلسلت الإمامة عندهم كالتالي :
1 ـ علي بن أبي طالب ت 40 هجري
2 ـ الحسن بن علي ت 50 هجري
3 ـ الحسين بن علي ت 61 هجري
4 ـ الحسن بن الحسن ت 80 هجري
5 ـ زيد بن علي ت 122 هجري
6 ـ يحيى بن زيد ت 126 هجري
7 ـ محمد النفس الزكية ت 145 هجري
8 ـ ابراهيم بن عبد اللّه ت 145 هجري
9 ـ ابراهيم بن الحسن المثنى ت 145 هجري
10 ـ يحيى بن عبد اللّه بن الحسن المثنى ت 175 هجري
11 ـ ادريس بن عبد اللّه بن الحسن المثنى ت 175 هجري
12 ـ محمد بن طباطبا ت 199 هجري
13 ـ محمد بن سليمان بن داود بن الحسن المثنى ت 200 هجري
14 ـ ادريس بن ادريس ت 214 هجري
و استمرت الإمامة بعد هؤلاء ـ و لا تزال ـ وفق الشروط التالية :
1 ـ النسب الحسني أو الحسيني .
2 ـ الدعوة .
3 ـ الثورة .
و لمعرفة بقية أئمتهم حتى سقوط دولة آل حميد الدين في اليمن سنة 1962 م يرجع إلى كتاب ( الزيدية ) للدكتور احمد محمود صبحي الصفحة 587 تحت عنوان ( سلسلة أئمة الزيدية ) .
و يقول السيد احمد حسين شرف الدين الزيدي المعاصر : « و اجمعت الزيدية على أن معرفة الإمام علي واجبة على كل مكلف .
أما في حكم من تقدمه من الخلفاء الثلاثة فزيدية اليمن لا تنكر عليهم شيئاً في ذلك لجواز قيام المفضول عند وجود الأفضل للمصلحة و لمبايعة علي لهم .
و منهم من يوقف تخطئتهم على علمهم ، أي أنهم إذا كانوا غير عالمين باستحقاقه دونهم بعد التحري فلا إثم عليهم و ان اخطأوا ، لأن كل مجتهد مصيب ، و إلا فخطيئتهم كبيرة ، و هذا هو قول الإمام القاسم بن محمد في كتابه ( الأساس ) .
أما الجارودية و الصالحية ـ و هما من فرق الزيدية ، و قد ظهرتا بالعراق ـ فتقولان بأن الأمة ضلت و كفرت في تركها بيعته ، ولم يخطئوا أبا بكر و عمر لسكوت الإمام علي » 48 .
أئمة الاسماعيلية :
و أما أئمة الاسماعيلية فيتسلسلون كالتالي :
أ ـ الأئمة الظاهرون :
1 ـ علي بن أبي طالب
2 ـ الحسن بن علي
3 ـ الحسين بن علي
4 ـ علي بن الحسين زين العابدين
5 ـ محمد بن علي الباقر
6 ـ جعفر بن محمد الصادق
7 ـ إسماعيل بن جعفر الصادق ت 145 هجري
ب ـ الأئمة المستورون :
1 ـ محمد بن إسماعيل ت 183 هجري
2 ـ عبد اللّه الرضا بن محمد بن إسماعيل
3 ـ احمد بن عبد اللّه بن محمد بن إسماعيل
4 ـ الحسين بن احمد بن عبد اللّه بن محمد بن إسماعيل
5 ـ علي بن الحسين بن احمد بن عبد اللّه بن محمد بن إسماعيل
6 ـ عبيد اللّه المهدي الفاطمي ت 322 هجري
الأئمة عند الأباضية :
و ذهبت الأباضية إلى وجوب الإمامة في المجتمع الإسلامي ـ كما ألمحت ـ ، و استدلوا على ذلك :
بأن إقامة الحدود واجبة في الشريعة الإسلامية ، و هي لا تقام إلا بالأئمة و ولاتهم .
و ذهبوا إلى عدم قصر الإمامة على قريش ، لأن الناس سواسية أمام اللّه ، و قد خلقهم من نفس واحدة ، فلا تمييز بين أبناء المسلمين لهذا المنصب ، و ذلك لقوله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : ( إن أمّر عليكم عبد حبشي مجدوع الأنف فاسمعوا و أطيعوا ما أقام فيكم كتاب اللّه ) .
و الطريق لتنصيب الإمام عندهم هو الاختيار و البيعة .
و تبدأ الإمامة بعد الرسول عندهم بابي بكر الصديق ( رض ) لاستخلاف الرسول له في الصلاة و لإجماع الصحابة على خلافته .
و صححوا من بعدْ خلافة عمر بن الخطاب ( رض ) لإجماع الصحابة أيضاً 49 .
و توقفوا كالخوارج في خلافة الصهرين عثمان و علي و من بعدهما من الأمويين و العباسيين .
و كانت لهم إمامتهم الخاصة في ( عمان ) منذ القرن الثالث الهجري ، و لا تزال قائمة حتى الآن .
و الاباضيون يؤكدون في الكثير من كتبهم على أنهم ليسوا من الخوارج و ان التقوا معهم في بعض العقائد .
و يؤكدون أيضاً على أنهم يحترمون الصهرين و يقولون بعدالتهما ، لأن التخطئة ـ كما يقولون ـ لا تستلزم التفسيق أو التكفير .
العصمة
اشترط الإمامية و الإسماعيلية عصمة الإمام .
قال العلامة الحلي : « يجب أن يكون ( الإمام ) معصوماً ، والا لزم التسلسل .
و التالي باطل .
فالمقدم مثله .
بيان الشرطية :
إن العلة المقتضية لوجوب نصب الإمام جواز الخطأ على المكلف .
فلو جاز عليه الخطأ لوجب افتقاره إلى إمام آخر ليكون لطفاً له و للأمة أيضاً ، و يتسلسل » 50 .
و في هدي آية ﴿ ... إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ 15 يكون نص تعيين الإمام هو نفسه دليل أنه معصوم ، لأن الإمامة ـ كما هو صريح الآية ـ عهد اللّه الذي لا يعهد به لظالم .
و الى هذا يشير الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) بقوله : ( الإمام منا لا يكون إلا معصوماً ، و ليست العصمة في ظاهر الخلقة فتعرف ، و لذلك لا يكون إلا منصوصاً ) .
و استدلوا أيضاً بآية التطهير : ﴿ ... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ 51 .
بتقريب أن المراد من الرجس الذنوب ، ذلك أن الرجس : « القذر حساً أو معنى ، و يطلق على ما يستقبح في الشرع و الفطر السليمة » 52 .
و المراد بـ ( أهل البيت ) : علي و فاطمة و الحسن و الحسين ، لحديث الكساء المروي عن أم سلمة ( رض ) : « قالت : نزلت هذه الآية في بيتي ﴿ ... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ 51 و في البيت سبعة : جبريل و ميكائيل و علي و فاطمة و الحسن و الحسين ( رض ) و أنا على باب البيت .
قلت : ألست من أهل البيت ؟
قال ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : إنك إلى خير ، إنك من أزواج النبي » 53 ، و لحديث المباهلة المروي في صحيح مسلم : 7 / 121 : « لما نزلت هذه الآية ﴿ ... فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ... ﴾ 54 دعا رسول اللّه علياً و فاطمة و حسناً و حسيناً ، فقال : « اللهم هؤلاء أهلي » 55 .
و بوحدة الملاك تعم الآية بمؤداها سائر الأئمة التسعة .
و جاء في كتاب ( نظرية الإمامة ) للدكتور احمد محمود صبحي صفحة 16 ، نقلاً عن كتاب ( الوشيعة ) لموسى جار اللّه ما نصه : « نحن فقهاء أهل السنة و الجماعة نعتبر سيرة الشيخين الصديق و الفاروق أصلاً تعادل سنة النبي الشارع في إثبات الأحكام الشرعية في حياة الأمة و إدارة الدولة .
و ان الخلافة الراشدة معصومة عصمة الرسالة » .
و ذهب محدثوهم إلى القول بعصمة الصحابة و أن كبائرهم صغائر 56 .
و المعروف عند أهل السنة و كذلك الزيدية و الأباضية اشتراط عدالة الإمام .
و اختلفوا في أمر الخروج عليه إذا ظهر منه ما يثبت انتفاء العدالة ، فقال الزيدية و الأباضية بالخروج عليه .
و قال الحنابلة من أهل السنة بحرمة الخروج عليه ، قال ابو الحسن الاشعري ( الحنبلي المذهب ) : « و نرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح و الإقرار بإمامتهم و تضليل من رأى الخروج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة ، و ندين بترك الخروج عليهم بالسيف » 57 58 .
و اسم الفاعل من الفعل ( أم يؤم ) : ( آم ) ، ( أصله آمم ) ثم ادغم مثلاه .
و لكن غلب استعمال المصدر فيه فقيل : إمام ـ بصيغة المذكر ـ للمذكر و المؤنث ، و يجمع على ( أيمة ) بالياء ، و ( أئمة ) بالهمزة .
و معناه ـ معجمياً ـ : القدوة ، أو من يقتدى به في قوله أو فعله ، سواء كان محقاً أو مبطلاً .
و استعمل في القرآن الكريم في الإمام المحق كما في قوله تعالى : ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ... ﴾ 1 ، و في الإمام المبطل كما في قوله تعالى ﴿ ... فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ... ﴾ 2
و كلامياً :
عرّف النصير الطوسي الإمامة بقوله : " الإمامة : رياسة عامة دينية مشتملة على ترغيب عموم الناس في حفظ مصالحهم الدينية و الدنياوية و زجرهم عما يضرهم بحسبها " 3 .
و عرفها العلامة الحلي بقوله : " الإمامة : رياسة عامة في أمور الدين و الدنيا لشخص من الاشخاص نيابة عن النبي ـ صلى الله عليه و آله و سلم ـ " 4 .
و عرفها العضد الايجي بقوله : " هي خلافة الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) في إقامة الدين بحيث يجب اتباعه ( يعني الإمام ) على كافة الأمة " 5 .
و عرفها الماوردي بما نصه : " الإمامة : موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين و سياسة الدنيا " 6 .
و بإلقاء شيء من الضوء على هذه التعاريف المذكورة و أمثالها يتبين لنا أن الشيعة يؤكدون على أن الإمامة تشمل في وظيفتها السلطتين : الروحية و الزمنية .
و بتعبير قانوني مدني : السلطتين : الدينية و المدنية ( السياسة ) ، و ذلك لأن السنة ـ كما سنرى ـ قصروا وظيفة الإمامة في الشؤون السياسية .
و في هذا الضوء يأتي تعريف الإيجي ـ و هو من أعلام متكلمة السنة ـ غير موائم لما ذهبوا إليه .
و اختلف في الإمامة : هل هي من أصول الدين أو من فروعه ؟ .
ذهب إلى الأول أصحابنا الإمامية ، قال استاذنا الشيخ المظفر : " نعتقد أن الإمامة أصل من أصول الدين " 7 .
و ذهب إلى الثاني أهل السنة ، قال العضد الايجي : " المرصد الرابع في الإمامة و مباحثها : عندنا من الفروع ، و إنما ذكرناها في علم الكلام تأسياً بمن قبلنا " 5 .
و قال الآمدي : " و اعلم أن الكلام في الإمامة ليس من أصول الديانات " 8 .
و كما اختلف في أن الإمامة أصل أو فرع ، اختلف أيضاً في وجوبها و نفيه .
بمعنى : هل يلزم نصب إمام للمسلمين أو لا يلزم ؟ ؟ .
فذهب بعض الخوارج إلى انها غير واجبة . .
و ذهب الباقون من الفرق الإسلامية إلى وجوبها .
و اختلف القائلون بوجوبها في دليله ( أعني دليل وجوب نصب الإمام ) على قولين
1 ـ ذهب أهل السنة :
إلى أن نصب الإمام واجب سمعاً لا عقلاً ، أي أن دليل الوجوب هو النقل لا العقل .
2 ـ ذهب المعتزلة و الشيعة :
إلى أن نصب الإمام واجب عقلاً ، أي أن دليل الوجوب دليل عقلي .
ثم اختلف القائلون بالوجوب العقلي في من يجب عليه نصب الإمام على قولين :
1 ـ ذهب المعتزلة إلى انه واجب على العقلاء ( أي الناس ) ، و مثلهم في هذا أهل السنة .
2 ـ ذهب الإمامية و الإسماعيلية إلى انه واجب على اللّه .
و اختلف القائلون بوجوبه على اللّه في الغاية و الغرض من الوجوب على قولين هما :
1 ـ ذهب الإمامية : انه لحفظ قوانين الشرع .
2 ـ ذهب الإسماعيلية ليكون معرفاً للّه تعالى .
و يمكننا أن نلخص هذه الأقوال بالتالي :
الإمامة او نصب الإمام
غير واجب ، واجب
على الناس ، على اللّه
و نخلص من هذه أيضاً إلى أن في المسألة قولين رئيسين هما :
1 ـ إن نصب الإمام يتم عن طريق اختيار الناس له . و هو قول المعتزلة و السنة و الاباضية .
2 ـ إن نصب الإمام يتم عن طريق تعيينه بالنص عليه من قبل اللّه تعالى ، و هو قول الشيعة .
بيان دليل أهل السنة :
قال العضد الايجي : " و أما وجوبه علينا سمعاً فلوجهين :
الأول : أنه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) على امتناع خلو الوقت عن إمام ، حتى قال أبو بكر ( رض ) في خطبته : ( ألا إن محمداً قد مات ، و لا بد لهذا الدين ممن يقوم به ) فبادر الكل إلى قبوله ، و تركوا له أهم الأشياء ، و هو دفن رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) .
ولم يزل الناس على ذلك في كل عصر إلى زماننا هذا من نصب إمام متبع في كل عصر .
فان قيل : لا بد للإجماع من مستند ، و لو كان ، لَنُقِلَ ، لتوفر الدواعي .
قلنا : استغني عن نقله بالإجماع ، أو كان من قبيل ما لا يمكن نقله من قرائن الأحوال التي لا يمكن معرفتها إلا بالمشاهدة و العيان لمن كان في زمن النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) .
الثاني : أن فيه دفع ضرر مظنون و أنه واجب إجماعاً .
بيانه : أنا نعلم علماً يقارب الضرورة أن مقصود الشارع فيما شرع من المعاملات و المناكحات و الجهاد و الحدود و المقاصات و إظهار شعار الشرع في الاعياد و الجمعات ، إنما هو مصالح عائدة إلى الخلق معاشاً و معاداً ، و ذلك لا يتم إلا بإمام يكون من قبل الشارع يرجعون إليه فيما يعن لهم ، فإنهم ـ مع اختلاف الأهواء و تشتت الآراء ، و ما بينهم من الشحناء ـ قلما ينقاد بعضهم لبعض ، فيفضي ذلك إلى التنازع و التواثب ، و ربما أدّى إلى هلاكهم جميعاً ، و يشهد له التجربة ، و الفتن القائمة عند موت الولاة إلى نصب آخر ، بحيث لو تمادى لعطلت المعايش ، و صار كل أحد مشغولاً بحفظ ماله و نفسه تحت قائم سيفه ، و ذلك يؤدي إلى رفع الدين و هلاك جميع المسلمين .
فان قيل : و فيه اضرار ، و أنه منفي بقوله عليه السلام : ( لا ضرر و لا ضرار في الاسلام ) .
و بيانه من ثلاثة أوجه :
الأول : تولية الإنسان على من هو مثله ليحكم عليه فيما يهتدي إليه و فيما لا يهتدي إضرار به لا محالة .
الثاني : قد يستنكف عنه بعضهم كما جرت به العادة ، فيفضي إلى الفتنة .
الثالث : أنه لا يجب عصمته ـ كما سيأتي ـ فيتصور منه الكفر و الفسوق ، فان لم يعزل أضر بالأمة بكفره و فسقه ، و ان عزل أدى إلى الفتنة .
قلنا : الاضرار اللازم من تركه أكثر بكثير ، و دفع الضرر الأعظم عند التعارض واجب " 9 .
بيان دليل الشيعة :
قال الفاضل المقداد : إن الإمامة لطف ، و كل لطف واجب على اللّه ، فالإمامة واجبة على اللّه تعالى .
أما الكبرى فقد تقدم بيانها .
و أما الصغرى فهو أن اللطف ـ كما عرفت ـ ما يقرب العبد إلى الطاعة و يبعده عن المعصية ، و هذا المعنى حاصل في الإمامة .
و بيان ذلك : أن من عرف عوايد الدهماء و جرب قواعد السياسة ، علم ضرورةً أن الناس إذا كان لهم رئيس مطاع مرشد فيما بينهم يردع الظالم عن ظلمه و الباغي عن بغيه و ينتصف للمظلوم من ظالمه ، و مع ذلك يحملهم على القواعد العقلية و الوظائف الدينية و يردعهم عن المفاسد الموجبة لاختلال النظام في امور معاشهم و عن القبائح الموجبة للوبال في معادهم بحيث يخاف كل مؤاخذته على ذلك ، كانوا مع ذلك إلى الصلاح أقرب و من الفساد أبعد ، و لا نعني باللطف إلا ذلك ، فتكون الإمامة لطفاً و هو المطلوب .
و اعلم : أن كل ما دل على وجوب النبوة فهو دال على وجوب الإمامة ، إذ الإمامة خلافة عن النبوة ، قائمة مقامها إلا في تلقي الوحي الإلهي بلا واسطة ، و كما أن تلك واجبة على اللّه تعالى في الحكمة ، فكذا هذه " 10 .
و يرجع هذا الاختلاف بين المذهبين الشيعي و السني إلى مدى سعة و ضيق جهة الالتقاء بين النبوة و الإمامة .
ذلك أن الشيعة يرون أن الإمامة في وظيفتها هي امتداد للنبوة ، فكما كانت وظيفة النبي تتمثل في ممارسته للسلطتين الدينية و السياسية ، و ان السلطة السياسية هي من الدين و ليست اجتهاداً من النبي لأن النبي ـ في رأيهم ـ غير ممكن أن يرجع إلى اجتهاد ، لأن الاجتهاد عرضة للخطأ ، و لأن نتائجه ظنية ، و النبي معصوم ، و المعصوم لا يخطأ .
مضافاً إليه : أن أحكامه التي يقوم بتطبيقها بصفته رئيساً للدولة ، أي سياسياً ، هي أحكام واقعية ، بمعنى أنها علم يقيني لا مجال للظن فيها ، لأنها نابعة من انكشاف واقع القضية لديه موضوعاً و حكماً لا من استخدامه وسيلة الاجتهاد التي قد تصيب و قد تخطئ ، و ذلك لاتصاله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) بالوحي ، و عدم صدور أي سلوك منه لا يلتقي مع ما يوحي به إليه ، فهو في الواقع لا يحتاج إلى الاجتهاد ، لان الاجتهاد طريق موصل إلى الحكم لدى من ليس له طريق آخر مأمون العثار و الخطأ و مضمون الإصابة و الوصول إلى الحكم بواقعه و هو طريق الوحي .
كذلك وظيفة الإمامة تتمثل في ممارسة الإمام للسلطتين الدينية و السياسية .
بينما ذهب أهل السنة إلى أن الإمامة وظيفة سياسية تعتمد على اجتهاد الإمام ، كما كان الرسول ـ كما يرون ـ يعتمد في سياسته بصفته رئيساً للدولة على اجتهاده ، ذلك انهم " فرقوا بين أحكام الدين و أحكام السياسة ، و مالوا إلى اعتبار الرسول مجتهداً في الشؤون السياسة و كل ما يتصل بسلطته الزمنية ، يقول ابن القيم : السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح و أبعد عن الفساد ، و ان لم يضعه الرسول و لا نزل به وحي ، و من قال لا سياسة إلا بما نطق به الشرع فقد غَلَطَ و غَلّطَ الصحابة " 11 .
فالسنة ـ كما هو واضح مما تقدم ـ يفصلون بين أحكام الدين و أحكام السياسة كالذي هو معروف حالياً في الفكر القانوني المعاصر ، و الذي يوسم بـ ( نظرية الفصل بين الدين و الدولة ) .
و نخلص من هذا إلى أن الشيعة انما قالوا بان وجوب نصب الإمام بالنص أو التعيين من اللّه ، لأن الإمام عندهم امتداد لوظيفة النبوة روحياً و سياسياً ، فكما أن النبي يعين من قبل اللّه تعالى كذلك الإمام .
أما السنة فلأنهم فصلوا بين السلطتين الروحية و الزمنية و اعتبروا الإمام قائماً بوظيفة النبي الزمنية أو السياسية ، و هي تعتمد الاجتهاد ، قالوا يتم نصبه عن طريق اختيار الناس له .
و حاول الدكتور احمد محمد صبحي في كتابه ( الزيدية ) أن يدافع عن أهل السنة و يدفع عنهم القول بالفصل بين الدين و الدولة بقوله : " على أنه من الخطأ تصور موقف أهل السنة فصلاً بين السياسة و الدين ، و إنما هو مجرد تفرقة بين شرعٍ مصدره الكتاب و السنة و سياسةٍ قائمة على الاجتهاد الذي هو بدوره مصدر من مصادر التشريع في الإسلام ، ولم يُعرف الفصل التام بين السياسة و الدين إلا بعد سقوط الخلافة العثمانية ، و بتأثير من الفكر السياسي الأوربي " 12 .
و المستغرب من الدكتور صبحي أنه لم يفرق بين المصدر و الوسيلة ، فاعتد الاجتهاد ـ و هو وسيلة ينتهجها المجتهد لاستنباط و استخراج الحكم الشرعي من مصدره و هما الكتاب و السنة ـ مصدراً من مصادر التشريع .
و ظني أنه التبس الأمر عليه بين القياس و أمثاله من مصادر أخرى غير الكتاب و السنة ، و بين الاجتهاد ، ولم يدرك أن الاجتهاد طريقة يستخدمها المجتهد لأخذ الحكم من هذه المصادر .
فالقياس و الإجماع و الاستحسان و أمثالها أمور قائمة في واقها كالكتاب و السنة ، و الفارق ان من لم يكن مجتهداً لا يقوى على استفادة الحكم منها ، و بعكسه من كان مجتهداً فانه يستطيع اذا استعمل اجتهاده أن يستفيد الحكم منها .
و بالإضافة إلى ما تقدم استدل كل من الشيعة و السنة بالقرآن الكريم على رأيه في وجوب نصب الإمام بالتعيين الإلهي أو الاختيار من قبل الناس .
دليل السنة :
استدل أهل السنة بقوله تعالى : ﴿ ... وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ... ﴾ 13 .
و الشورى ـ لغة ـ اسم من المشاورة ، يقال : شورى و مشاورة و تشاور و مَشُوْرَةَ ـ بضم الشين و سكون الواو ـ و مَشْوَرَة ـ بسكون الشين و فتح الواو ـ .
و تعني المفاوضة في الكلام بمراجعة البعض إلى البعض لاستخراج الرأي .
و هي من قولهم ( شرت العسل ) إذا اتخذته من موضعه و استخرجته منه .
و تطلق أيضاً على الأمر الذي يتشاور فيه ، يقال : ( صار هذا الشيء شورى بين القوم ) إذا تشاوروا فيه .
و ذكر في سبب نزول الآية الكريمة أن الأنصار كانوا قبل قدوم النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) المدينة المنورة إذا أرادوا أمراً تشاوروا فيه ثم عملوا عليه ، فمدحهم اللّه تعالى به .
و تقرير الاستدلال بها :
أن الآية الكريمة مطلقة لأن مورد النزول هنا ليس بقرينة مقيدة .
و الإطلاق يقتضي حملها على كل أمر يطلب فيه التشاور ما عدا الأحكام و الحدود الشرعية لأنها خارجة بالتخصص لدليل العقل القاضي بان عدم خروجها من هذا الإطلاق يستلزم إلغاء تشريعها .
و لأن الخلافة لم يرد فيها نص شرعي يبين كيفيتها و شروطها و مواصفاتها تندرج تحت ما يطلب فيه المشورة أو الشورى .
و الذي يلاحظ على هذا الاستدلال :
1 ـ إن الآية ليست في مقام التشريع ، و إنما هي في مقام بيان أهمية و قيمة التشاور في الأمور العامة التي تتطلب ذلك .
و هذا يقتضينا عدم الأخذ بها إذا كان في القرآن الكريم ما يفاد منه تشريع الخلافة كما في الآية الآتية التي استدل بها الشيعة على ذلك .
2 ـ إن الآية لم تبين من الذين يقتضي أن يقوموا بمهمة التشاور ، و عليه لا بد من الاحتياط المبرئ لذمة المكلف من مسؤولية التكليف و الخروج من عهدتها بجمع كل الأطراف المعنية و إدخالها في عملية التفاوض و التشاور .
و هذا ما لم يتحقق تاريخياً منذ اختيار أول خليفة حتى عهدنا الحاضر ، و الأمر من الوضوح بمكان لا يفتقر معه إلى إقامة دليل .
دليل الشيعة :
و استدل الشيعة بقوله تعالى : ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ 14 .
و تقرير الاستدلال بالآية الكريمة :
1 ـ أن الآية صريحة في أن الإمامة لا تكون لأحد إلا بجعل من اللّه تعالى ، أي بتعيين منه .
2 ـ ان الإمامة عهد اللّه ، أي مسؤولية إلهية مهمة فلا تناط إلا بمن لديه أهلية القيام بها ، و هي أن يكون غير ظالم لنفسه أو لغيره ، و هذا لا يتحقق إلا إذا كان الإمام معصوماً ، لأن العصمة ملكة ثابتة و دائمة ، و بعكسها العدالة فانها قابلة للحدوث و التجدد ، ففي حالة زوالها تزول معها الإمامة ، لأن المشروط عدم عند عدم شرطه .
و جاء في بعض تفسيرات الآية : أن المراد بالإمامة هنا النبوة ، و رده السيد الطباطبائي بقوله : قوله تعالى : ﴿ ... إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ... ﴾ 15 أي مقتدى يقتدي بك الناس ، و يتبعونك في أقوالك و أفعالك .
فالإمام هو الذي يقتدي و يأتم به الناس ، و لذلك ذكر عدة من المفسرين أن المراد به النبوة ، لأن النبي تقتدي به أمته في دينهم ، قال تعالى : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ... ﴾ 16 ، لكنه في غاية السقوط .
أما أولاً ، فلأن قوله : ( إماماً ) مفعول ثانٍ لعامله الذي هو قوله : ( جاعلك ) و اسم الفاعل لا يعمل إذا كان بمعنى الماضي ، و إنما يعمل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال ، فقوله : ﴿ ... إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ... ﴾ 15 و عدله ـ عليه السلام ـ بالإمامة في ما سيأتي ، مع أنه وحي لا يكون إلا مع نبوة ، فقد كان ( عليه السلام ) نبياً قبل تقلده الإمامة ، فليست الإمامة في الآية بمعنى النبوة ( ذكره بعض المفسرين ) .
و أما ثانياً : فلأنا بيّنا في صدر الكلام : أن قصة الإمامة إنما كانت في أواخر عهد إبراهيم ( عليه السلام ) بعد مجيء البشارة له بإسحق و إسماعيل ، و إنما جاءت الملائكة بالبشارة في مسيرهم إلى قوم لوط و إهلاكهم ، و قد كان إبراهيم حينئذٍ نبياً مرسلاً ، فقد كان نبياً قبل أن يكون إماماً ، فإمامته غير نبوته " 17 .
و في حديث الإمام الصادق ( عليه السلام ) : " و قد كان إبراهيم نبياً و ليس بإمام حتى قال اللّه : ﴿ ... إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ 15 من عَبَدَ صنماً أو وثناً لا يكون إماماً " 18 . و ذلك تطبيقاً منه عليه السلام للآية الكريمة : ﴿ ... إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ 19 .
و لان أبا بكر الصديق ( رض ) كان قبل إسلامه مشركاً لا يكون ـ كما يرون ـ مؤهلاً للإمامة الإلهية .
و من هنا كان النص من اللّه تعالى على الإمام علي ( عليه السلام ) لأنه لم يسبق منه شرك أو ظلم لنفسه بالشرك أو بغيره .
و ما دمنا وصلنا إلى هذا لا بأس بصرف عنان البحث إلى ذكر أدلة كل من الطرفين على الإمام الخاص بعد النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) .
أدلة السنة على إمامة أبي بكر :
1 ـ النص الجلي :
استدل السنة الذين يرون أن النبي نص على أبي بكر نصاً جلياً بالحديث المشهور و هو :
( إن امرأة أتت إلى النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) لتسأله أمراً من الأمور فأجابها و طلب منها أن ترجع إليه متى أرادت ، فقالت : أرأيتَ أن جئتُ فلم أجدك ؟ قال : إن لم تجديني فأتي أبا بكر ) .
و بالحديث الآخر :
( اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر و عمر ) .
و بحديث أبي هريرة :
( قال : سمعت رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) قال : بينما أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو ، فنزعت منها ما شاء اللّه ، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوباً أو ذنوبين ، و في نزعه ضعف ، واللّه يغفر له ضعفه ، ثم استحالت غرباً ، فأخذها عمر بن الخطاب ، فلم أر عبقرياً من الناس ينزع نزع عمر حتى ضرب الناس بعطن ) .
2 ـ النص الخفي :
و استدل أهل السنة الذين يذهبون إلى أن إمامة أبي بكر ثبتت بالنص الخفي بالواقعة المشهورة ، و هي :
" إن الرسول في أثناء مرضه أمر أن يؤم أبو بكر المسلمين في الصلاة ، و الصلاة هي الإمامة الصغرى .
فأولى به أن يكون هو صاحب الإمامة الكبرى إمامة المسلمين دنيا و ديناً " .
و يؤخذ عليهما :
أن الاستدلال بالنص يتنافى و ما ذهب إليه جمهورهم من أن النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) لم يستخلف ، ولم ينص على أحد بالخلافة .
و عليه :
لا ريب في أنها اختلقت ليعارض بها النصوص الواردة في استخلاف علي و النص عليه من قبل النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) بالإمامة .
3 ـ الشورى :
و هو رأي جمهور أهل السنة الذين يذهبون إلى أن رسول اللّه ترك أمر الإمامة لاجتهاد المسلمين .
" و رأى المسلمون أن أبا بكر هو ثاني اثنين إذ هما في الغار ، و أول من آمن من الرجال ، ثم رجل الصحبة الطويلة : و أخيراً عهد إليه الرسول بالصلاة الإمامة الصغرى ، فقاسوا الأمر بأن تكون له الإمامة الكبرى " 20 .
كانت هذه مبررات اختياره للإمامة و مبايعته بها .
هذا ما يذكره متأخرو علماء السنة ، و بتعبير أدق : المعاصرون منهم .
و لكن التاريخ الكلامي أو العقائدي لقضية الإمامة أو الخلافة ، يقول في الحادثة و تبريرها غير هذا .
فقد جاء في كتاب ( الملل و النحل ) للشهرستاني ـ و هو من أعلام السنة ـ ما نصه : " اختلف المهاجرون و الأنصار فيها ( يعني الإمامة ) فقالت الأنصار : منا أمير و منكم أمير ، و اتفقوا على رئيسهم سعد بن عبادة الأنصاري ، فاستدركه أبو بكر و عمر ـ رضي اللّه عنهما ـ في الحال بان حضرا سقيفة بني ساعدة ، و قال عمر : كنت أزوّر 21 في نفسي كلاماً في الطريق ، فلما وصلنا إلى السقيفة أردت أن أتكلم فقال أبو بكر : مه 22 يا عمر ، فحمد اللّه و أثنى عليه ، و ذكر ما كنت أقدره في نفسي كأنه يخبر عن غيب ، فقبل أن يشتغل الأنصار بالكلام مددت يدي إليه فبايعته و بايعه الناس و سكنت الفتنة ، ألا إن بيعة أبي بكر كانت فلتة 23 ، وقى اللّه المسلمين شرها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ، فأيما رجل بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فانهما تَغِرَّة 24 يجب أن يقتلا .
و إنما سكنت الأنصار عن دعواهم لرواية أبي بكر عن النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : ( الأئمة من قريش ) .
و هذه البيعة هي التي جرت في السقيفة .
ثم لما عاد إلى المسجد انثال 25 الناس عليه و بايعوه عن رغبة ، سوى جماعة من بني هاشم ، و ابي سفيان من بني أمية ، و أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي اللّه عنه ـ كان مشغولاً بما أمره النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) من تجهيزه و دفنه و ملازمة قبره من غير منازعة و لا مدافعة " 26 .
و كما هو واضح من النص هذا : أن الشورى لم تتحقق تاريخياً فلم يكن في السقيفة اجتماع شامل أو على الأقل واف لمن له حق المشورة و إبداء الرأي ممن يعرفون بأهل الحل و العقد .
ولم يدر بين من حضروا مشاورة و مفاوضة و مداولة في ترشيح من يستحقها من المسلمين .
و إنما كانت مبادرة و كسب موقف من الشيخين ( رض ) لئلا تكون الإمامة في الأنصار .
و مع كل هذا و غيره استطاع مبدأ الشورى ـ بصفته النظرية لا التطبيقية لأنه لم ير النور تطبيقياً ـ ان يهيمن على الجو الفكري و العقائدي مدة خلافة الخلفاء الثلاثة .
و بدأت قوة سيطرته و تأثيرها من قولة عمر : " إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى اللّه المسلمين شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ، فايما رجل بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فانهما تغرة يجب أن يقتلا " . . حتى لم يستطع بنو هاشم ـ و هم رهط رسول اللّه ـ إثارة الاحتجاج بالنص .
و استمرت تغذية هذا المبدأ سياسياً خلال هذه المدة لئلا يكون من علي و آل علي شيء يعترضه أو يعارضه ، إلى أن تسلم الإمام علي زمام الحكم بعد مقتل عثمان ، فبرز الاحتجاج منه بالنص .
و لعل أول ما كان منه هذا عندما جمع الناس في ( الرحبة ) فقال : ( انشد اللّه كل امرئ مسلم سمع رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) يقول يوم غدير خم ما قال إلا قام فشهد بما سمع ، و لا يقم إلا من رآه بعينيه و سمعه بإذنيه ) فقام ثلاثون صحابياً فيهم اثنا عشر بدرياً فشهدوا ، أنه أخذه بيده فقال للناس : أتعلمون اني أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا : نعم ، قال ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : من كنت مولاه فهذا مولاه ، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه ) 27 .
و إلى جانبه أثار ( عليه السلام ) فكرة التوضيح لما ينبغي أن يكون عليه مبدأ الشورى ، و ذلك في كتابه إلى معاوية ـ الآتي نصه ـ .
و أراد بهذا إلزام معاوية بما ألزم المسلمون به أنفسهم آنذاك ، و بخاصة أن الإمام ( عليه السلام ) ضمّن كتابه ما جاء في خطاب عمر ( رض ) من أن الخارج عما انتهى إليه أمر الخلافة يقتل .
قال ( عليه السلام ) : " أما بعد فان بيعتي بالمدينة لزمتك و أنت بالشام ، لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان على ما بويعوا عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار و لا للغائب أن يرد ، و انما الشورى للمهاجرين و الأنصار فإذا اجتمعوا على رجل فسموه إماماً كان ذلك رضا ، فان خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة ردوه إلى ما خرج منه ، فأن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين و ولاه اللّه ما تولى و يصليه جهنم و ساءت مصيرا ً " .
ثم يختم الإمام كتابه هذا بقوله : " و اعلم بأنك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة و لا تعرض فيهم الشورى " 28 .
و كأن الإمام ( عليه السلام ) يشير بهذا إلى شرط الإمامة الأساسي الذي جاء في قوله تعالى ﴿ ... لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ 15 .
أدلة الشيعة على إمامة علي :
استدل الشيعة على إمامة علي بعدة نصوص منها :
1 ـ حديث الغدير :
و قد دوّن هذا الحديث في غير كتاب من الكتب المعتبرة ، و روي بغير طريق من الطرق المختلفة صحاحاً و حساناً و سواها .
و نص على تواتره غير واحد من الأعلام ، من أحدثهم السيد الطباطبائي قال : " و أما حديث الغدير ـ أعني قوله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) ـ فهو حديث متواتر منقول من طرق الشيعة و أهل السنة بما يزيد على مئة طريق " 29 .
و نصه كما أخرجه الإمام احمد بن حنبل من حديث البراء بن عازب 30 من طريقين : قال : كنا مع رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) فنزلنا بغدير خم فنودي فينا الصلاة جامعة ، و كسح لرسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) تحت شجرتين ، فصلى الظهر ، و أخذ بيد علي ، فقال : ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟
قالوا : بلى .
قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم والِ من ولاه ، و عادِ من عاداه .
قال : فلقيه عمر بعد ذلك ، فقال له : هنيئاً يا بن أبي طالب أصبحت و أمسيت مولى كل مؤمن و مؤمنة " 31 .
و تقرير الاستدلال به :
يقول الشيخ أبو علي الطبرسي : " فأما وجه الاستدلال بخبر الغدير ففيه طريقان :
أحدهما : أن نقول : إن النبي قرّر أمته في ذلك المقام على فرض طاعته فقال : ( ألستُ أولى بكم من انفسكم ) فلما أجابوه بالاعتراف و قالوا : ( بلى ) ، رفع بيد أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) و قال عاطفاً على ما تقدم : ( من كنت مولاه فهذا مولاه ) ـ و في روايات أخر ( فعلي مولاه ) ـ ( اللهم وال من والاه و عادِ من عاداه ، و انصر من نصره و اخذل من خذله ) ، فأتى عليه الصلاة و السلام بجملة يحتمل لفظها معنى الجملة الأولى التي قدّمها ، و هو أن لفظة ( مولى ) تحتمل معنى ( أولى ) و ان كانت تحتمل غيره ، فيجب أن يكون أراد بها المعنى المتقدم على مقتضى استعمال أهل اللغة .
و إذا كانت هذه اللفظة تفيد معنى الإمامة بدلالة أنهم يقولون : ( السلطان أولى بإقامة الحدود من الرعية ) و ( المولى أولى بعبده ) و ( ولد الميّت أولى بميراثه من غيره ) و قوله سبحانه : ( النبي اولى بالمؤمنين من انفسهم ) لا خلاف بين المفسرين أن المراد : أنه أولى بتدبير المؤمنين و الأمر و النهي فيهم من كل أحد منهم .
و إذا كان النبي أولى بالخلق من أنفسهم من حيث كان مفترض الطاعة عليهم و أحق بتدبيرهم و أمرهم و نهيهم و تصرفهم بلا خلاف ، وجب أن يكون ما أوجبه لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) فيكون أولى بالمؤمنين من حيث أن طاعته مفترضة عليهم و أمره و نهيه مما يجب نفوذه فيهم ، و فرض الطاعة يتحقق بالتدبير من هذا الوجه لا يكون إلا للنبي أو الإمام ، فإذا لم يكن ( عليه السلام ) نبياً وجب أن يكون إماماً .
و أما الطريقة الأخرى في الاستدلال بهذا الخبر فهي : أن لا نبني الكلام على المقدمة ، و نستدل بقوله : ( من كنت مولاه ) من غير اعتبار ما قبله ، فنقول :
معلوم أن النبي أوجب لأمير المؤمنين أمراً كان واجباً له لا محالة ، فيجب أن يعتبر ما تحتمله لفظة ( مولى ) من الأقسام و ما يصح كون النبي مختصاً به منها و ما لا يصح و ما يجوز أن يوجبه لغيره في تلك الحالة ، و ما لا يجوز .
و جميع ما تحتمله لفظة ( مولى ) ينقسم إلى أقسام :
منها ما لم يكنه عليه الصلاة و السلام ، و هو ( المعتق ) و ( الحليف ) لأنه لم يكن حليفاً لأحد ، و الحليف : الذي يحالف قبيلة و ينسب إليها ، ليتعزز بها .
و منها ما كان عليه السلام ـ و معلوم لكل أحد ـ أنه لم يرده ، و هو :
( الجار ) و ( الصهر ) و ( ابن العم ) .
و منها ما كان ، و معلوم بالدليل أنه لم يرده ، و هو : ( ولاية الدين ) و النصرة فيه و المحبة .
و مما يدل على أنه لم يرد ذلك أن كل عاقل يعلم من دينه وجوب موالاة المؤمنين بعضهم بعضاً ، و بذلك نطق القرآن ، و كيف يجوز أن يجمع ذلك الجمع العظيم في مثل تلك الحال و يخطب على المنبر المعمول من الرحال ليعلّم الناس من دينه ما يعلمونه ضرورة .
و منها ما كان حاملاً له ، و يجب أن يريده و هو ( الأولى بتدبير الأُمة و أمرهم و نهيهم ) ، لأنّا إذا أبطلنا جميع الأقسام ، و علمنا أنه يستحيل أن يخلو كلامه من معنى أو فائدة ، ولم يبق إلا هذا القسم فيجب أن يريده .
و قد بينا أن كل من كان بهذه الصفة فهو الإمام المفترض الطاعة ، و أما استيفاء الكلام فيه ففي الكتب الكبار " 32 .
ان عقد الولاية العامة التي تعني الإمامة لعلي ( عليه السلام ) من قبل رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) كان امتثالاً منه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) لوحي نزل عليه في ( غدير خم ) و هو قوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ 33 .
ففي ( أسباب النزول ) روى أبو الحسن الواحدي بسنده عن أبي سعيد الخدري : " قال : نزلت هذه الآية ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ... ﴾ 34 يوم غدير خم في علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه " 35 .
و الآية صريحة في أمر اللّه رسوله الكريم بتبليغ وحي انزل اليه من ربه .
كما انها ظاهرة بأن هذا كان بعد تمام تبليغه الرسالة الالهية التي أعلن عن إكمالها و تمامها يوم عرفة قبل وصوله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) إلى غدير خم بقوله تعالى : ﴿ ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ... ﴾ 36 .
و ظاهرة أيضاً في أن ذلك الأمر حكم جزئي ، و ذلك لأن الرسالة لانها تبليغ لعموم الناس حتى قيام الساعة تحتوي الأحكام الكلية ، و من تلكم الاحكام الكلية حكم الإمامة الذي أفدناه من آية ﴿ ... قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ... ﴾ 15 ، فيكون الأمر الجزئي هنا هو تطبيق حكم الإمامة على الشخص المؤهل لها .
و يؤيد هذا و يؤكده قوله تعالى : ﴿ ... وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ... ﴾ 34 ، لأن الناس ـ و هم العامة هنا ـ قد لا يتورعون من توجيه الاتهام إلى النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) بالمحاباة لابن عمه ، و ربما حاول من له طمع في الخلافة إفساد الأمر على الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ، فأعطاه تعالى هذا الضمان بحفظه مما قد يلاقيه من الناس حين قيامه بمهمة عقد الولاية لعلي و نصبه إماماً للمسلمين .
" ففي تفسير العياشي عن ابي صالح عن ابن عباس و جابر بن عبد اللّه : قالا : أمر اللّه تعالى نبيه محمداً أن ينصب علياً علماً في الناس ليخبرهم بولايته فتخوف رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) أن يقولوا حابى ابن عمه و أن يطعنوا في ذلك عليه ، قالا : فأوحى اللّه إليه هذه الآية ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ... ﴾ 34 فقام رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) بولايته يوم غدير خم ) 37 .
يقول الدكتور النشار بعد حديثه عن حديث الدار : " ثم هناك الحديث الهام حديث الغدير و الذي اتخذه الشيعة سنداً لأحقية علي الكاملة في خلافة المسلمين بعد رسول اللّه .
فقد خرج النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) من مكة بعد حجة الوداع ، و في الطريق نزل عليه الوحي ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ... ﴾ 34 ، و كان النبي عند غدير خم ، فأمر بالدرجات و جمع الناس في يوم قائظ شديد القيظ و دعا علياً إلى يمينه ، و خطب فقال : لقد دعيت إلى ربي و اني مغادركم من هذه الدنيا و اني تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي » ، ثم أخذ بيد علي و رفعها و قال « يا ايها الناس ألستُ أولى منكم بانفسكم ؟ قالوا : بلى ، قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم والِ من والاه و عادِ من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله و أدر الحق معه حيثما دار » ، فقال عمر : « بخ بخ ، أصبحت مولاي و مولى كل مؤمن و مؤمنة » ، ثم عاد الرسول إلى خيمته و نصب لعلي اخرى بجانبها ، و أمر المسلمين أن يبايعوه بالإمامة ، و سلموا له بإمرة المؤمنين جميعاً رجالاً و نساء 38 .
هذا هو حديث غدير خم الذي اعتقده الشيعة سنداً صريحاً لهم في القول بإمامة علي ، و قد اعترف أهل السنة جزئياً بصحة هذا الحديث و أولوه بان المقصود من ( الولاية ) هنا الولاية الروحية ، بل إننا نرى الحسن البصري ـ إمام التابعين ـ يعلن أن علياً رباني هذه الأمة .
أما السلف من الحنابلة المتقدمين فقد أوّلوا الموالاة بعدم الكراهية ، و أنكر السلف المتأخرون الحديث إنكاراً تاماً .
و من العجب أن السلف الذين يكرهون التأويل و ينكرونه ، يؤلون هنا » 39 .
و من الواضح أن هذا التأويل كان بتأثير عوامل سياسية ، لان الاعتراف بان ظاهر الحديث يدل على الإمامة الإلهية لازمه إلزام من لا يعتقد بمؤداه بالمخالفة الشرعية .
يقول أبو القاسم البجلي المعتزلي : « لو نازع علي عقيب وفاة رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) و سل سيفه لحكمنا بهلاك كل من خالفه و تقدم عليه ، كما حكمنا بهلاك من نازعه حين أظهر نفسه ، و لكنه مالك الأمر و صاحب الخلافة ، إذا طلبها وجب علينا القول بتفسيق من ينازعه فيها ، و اذا أمسك عنها وجب علينا القول بعدالة من اغضى له عليها ، و حكمه في ذلك حكم رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ، لانه قد ثبت عنه في الأخبار الصحيحة أنه قال : ( علي مع الحق ، و الحق مع علي ، يدور معه حيثما دار ) ، و قال له غير مرة : ( حربك حربي ، و سلمك سلمي ) 40 .
مع أن اقتران الولاية لعلي بولاية النبي في الحديث الشريف المذكور دليل على أنها أعم من الولاية الروحية ، لأن ولاية النبي على الانفس تعني السلطة التنفيذية إذ لا معنى أن يكون النبي ولياً على الانفس روحياً .
2 ـ حديث الكتاب :
و نصه : « لما احتضر رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) و في البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : هلم اكتبْ لكم كتاباً لن تضلوا بعده ، فقال عمر : إن النبي قد غلب عليه الوجع ، و عندكم القرآن ، حسبنا كتاب اللّه ، فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول : قربوا يكتب لكم النبي كتاباً لن تضلوا بعده ، و منهم من يقول ما قال عمر ، فلما أكثروا اللغو و الاختلاف عند النبي ، قال لهم رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : قوموا .
فكان ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول اللّه و بين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم و لغطهم » 41 .
قال السيد شرف الدين تعليقاً عليه : « و هذا الحديث مما لا كلام في صحته و لا في صدوره ، و قد رواه البخاري في عدة مواضع من صحيحه ، و أخرجه مسلم في آخر الوصايا من صحيحه أيضاً ، و رواه احمد من حديث ابن عباس في مسنده ، و سائر أصحاب السنن و الأخبار » 39 .
« و أنت إذا تأملت في قوله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : ( هلم اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده ) و قوله في حديث الثقلين : ( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي ) تعلم أن المرمى في الحديثين واحد ، و انه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) اراد في مرضه ان يكتب لهم تفصيل ما أوجبه عليهم في حديث الثقلين .
و انما عدل عن ذلك لان كلمتهم تلك التي فاجأوه بها اضطرته إلى العدول ، إذ لم يبق بعدها أثر لكتابة الكتاب سوى الفتنة و الاختلاف من بعده في أنه هل هجر فيما كتبه ـ العياذ باللّه ـ أو لم يهجر ، كما اختلفوا في ذلك و اكثروا اللغو نصب عينيه ، فلم يتسن له يومئذ اكثر من قوله لهم : ( قوموا ) ـ كما سمعت ـ ، و لو أصر فكتب الكتاب للجوا في قولهم هجر و لا وغل أشياعهم في إثبات هجره ـ و العياذ باللّه ـ فسطروا به أساطيرهم ، و ملأوا طواميرهم رداً على ذلك الكتاب و على من يحتج به .
لهذا اقتضت حكمته البالغة أن يضرب ( صلى الله عليه و آله و سلم ) عن ذلك الكتاب صفحاً لئلا يفتح هؤلاء المعارضون و أولياؤهم باباً إلى الطعن في النبوة ـ نعوذ باللّه و به نستجير ـ و قد رأى ( صلى الله عليه و آله و سلم ) أن علياً و اولياءه خاضعون لمضمون ذلك الكتاب ، سواء عليهم أكتب أم لم يكتب ، و غيرهم لا يعمل به و لا يعتبرونه لو كتب ، فالحكمة ـ و الحال هذه توجب تركه إذ لا أثر له بعد تلك المعارضة سوى الفتنة كما لا يخفى » 42 .
أئمة الإمامية :
و تتسلسل الإمامة عند الشيعة الإمامية في اثني عشر إماماً ، و هم :
1 ـ علي بن أبي طالب ت 40 هجري
2 ـ الحسن بن علي ت 50 هجري
3 ـ الحسين بن علي ت 61 هجري
4 ـ علي بن الحسين زين العابدين ت 94 هجري
5 ـ محمد بن علي الباقر ت 114 هجري
6 ـ جعفر بن محمد الصادق ت 148 هجري
7 ـ موسى بن جعفر الكاظم ت 183 هجري
8 ـ علي بن موسى الرضا ت 203 هجري
9 ـ محمد بن علي الجواد ت 220 هجري
10 ـ علي بن محمد الهادي ت 254 هجري
11 ـ الحسن بن علي العسكري ت 260 هجري
12 ـ محمد بن الحسن المهدي و 255 هجري
و استدلوا على إمامتهم بنصوص ذكرت في كتب الحديث و كتب الإمامة ، تضمن بعضها النص على الاثني عشر ، و بعضها النص على كل فرد بخصوصه .
و من هذه النصوص ما هو متواتر لفظاً ، و منها ما هو متواتر معنى .
و المبدأ المستخلص منها : أن معرفة الإمام تتم بنص السابق على اللاحق .
و بالإضافة إلى ما ذكروه من نص النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) على الجميع بأسمائهم ، و الى ما ذكرته أعلاه من نصه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) على ابن عمه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) بالخصوص استدلوا بما رواه أهل السنة في صحاحهم و مسانيدهم عن النبي ( صلى الله عليه و آله و سلم ) من أنه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) نص على أن الأئمة إثنا عشر و كلهم من قريش .
ففي رواية البخاري : اثنا عشر أميراً كلهم من قريش .
و في رواية مسلم : اثنا عشر خليفة كلهم من قريش .
و مثلها رواية الترمذي وابن حجر و الحاكم 43 .
و في رواية احمد بن حنبل عن مسروق ، قال : كنا جلوساً عند عبد اللّه بن مسعود ، و هو يقرئنا القرآن ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : كم يملك هذه الأمة من خليفة ؟
فقال عبد اللّه : ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك .
ثم قال : نعم ، و لقد سألنا رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ، ( فقال ) : اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل » 44 .
يقول استاذنا السيد محمد تقي الحكيم : « و الذي يستفاد من هذه الروايات :
1 ـ إن عدد الأمراء أو الخلفاء لا يتجاوز الاثني عشر ، و كلهم من قريش .
2 ـ و إن هؤلاء الأمراء معينون بالنص ، كما هو مقتضى تشبيههم بنقباء بني إسرائيل لقوله تعالى : ﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ... ﴾ 45 .
3 ـ إن هذه الروايات افترضت لهم البقاء ما بقي الدين الإسلامي ، أو حتى تقوم الساعة ، كما هو مقتضى رواية مسلم السابقة ، و أصرح من ذلك روايته الأخرى في نفس الباب : « لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان » .
و إذا صحت هذه الاستفادة فهي لا تلتئم إلا مع مبنى الإمامية في عدد الأئمة و بقائهم و كونهم من المنصوص عليهم من قبله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ، و هي منسجمة جداً مع حديث الثقلين و بقائهما حتى يردا عليه الحوض .
و صحة هذه الاستفادة موقوفة على أن يكون المراد من بقاء الأمر فيهم بقاء الإمامة و الخلافة ـ بالاستحقاق ـ لا السلطة الظاهرية .
لأن الخليفة الشرعي خليفة يستمد سلطته من اللّه ، و هي في حدود السلطة التشريعية لا التكوينية ، لان هذا النوع من السلطة هو الذي تقتضيه وظيفته كمشرع ، و لا ينافي ذلك ذهاب السلطنة منهم في واقعها الخارجي لتسلط الآخرين عليهم .
على أن الروايات تبقى بلا تفسير لو تخلينا عن حملها على هذا المعنى ، لبداهة أن السلطة الظاهرية قد تولاها من قريش أضعاف أضعاف هذا العدد ، فضلاً عن انقراض دولهم و عدم النص على أحد منهم ـ أمويين و عباسيين ـ باتفاق المسلمين .
و من الجدير بالذكر أن هذه الروايات كانت مأثورة في بعض الصحاح و المسانيد قبل أن يكتمل عدد الأئمة ، فلا يحتمل أن تكون من الموضوعات بعد اكتمال العدد المذكور ، على أن جميع رواتها من أهل السنة و من الموثوقين لديهم .
و لعل حيرة كثير من العلماء في توجيه هذه الأحاديث و ملاءمتها للواقع التاريخي ، كان منشؤها عدم تمكنهم من تكذيبها ، و من هنا تضاربت الأقوال في توجيهها و بيان المراد منها .
و السيوطي « بعد أن أورد ما قاله العلماء في هذه الأحاديث المشكلة خرج برأي غريب نورده هنا تفكهة للقراء ، و هو : ( و على هذا فقد وجد من الإثني عشر : الخلفاء الأربعة و الحسن و معاوية و ابن الزبير و عمر بن عبد العزيز و هؤلاء ثمانية و يحتمل أن يضم إليهم المهدي من العباسيين ، لأنه فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أمية ، و كذلك الظاهر لما أويته من العدل ، و بقي الاثنان المنتظران احدهما : المهدي لأنه من أهل بيت محمد ) ولم يبين المنتظر الثاني ، و رحم اللّه من قال في السيوطي : انه حاطب ليل 46 » .
و ما يقال عن السيوطي ، يقال عن ابن روزبهان في دره على العلامة الحلي ، و هو يحاول توجيه هذه الأحاديث 47 .
و الحقيقة أن هذه الأحاديث لا تقبل توجيهاً إلا على مذهب الإمامية في أئمتهم .
و اعتبارها من دلائل النبوة في صدقها عن الأخبار بالمغيبات ، أولى من محاولة إثارة الشكوك حولها كما صنعه بعض الباحثين المحدثين متخطياً في ذلك جميع الاعتبارات العلمية ، و بخاصة بعد أن ثبت صدقها بانطباقها على الأئمة الإثني عشر ( عليه السلام ) » 39 .
أئمة السنة :
أما السنة فتتسلسل الإمامة عند جمهورهم بالخلفاء الراشدين و الحكام الأمويين و الحكام العباسيين و بمن ولي أمر حكمهم تحت عنوان الخلافة و امرة المؤمنين .
أئمة الزيدية :
و ذهب الزيدية إلى أن الإمامة في علي و الحسنين من بعده ، ثم في أهل البيت من بعدهما لقوله ( عليه السلام ) : « الأئمة في قريش في هذا البطن من هاشم » ، و لإجماع أهل البيت على ذلك .
و تسلسلت الإمامة عندهم كالتالي :
1 ـ علي بن أبي طالب ت 40 هجري
2 ـ الحسن بن علي ت 50 هجري
3 ـ الحسين بن علي ت 61 هجري
4 ـ الحسن بن الحسن ت 80 هجري
5 ـ زيد بن علي ت 122 هجري
6 ـ يحيى بن زيد ت 126 هجري
7 ـ محمد النفس الزكية ت 145 هجري
8 ـ ابراهيم بن عبد اللّه ت 145 هجري
9 ـ ابراهيم بن الحسن المثنى ت 145 هجري
10 ـ يحيى بن عبد اللّه بن الحسن المثنى ت 175 هجري
11 ـ ادريس بن عبد اللّه بن الحسن المثنى ت 175 هجري
12 ـ محمد بن طباطبا ت 199 هجري
13 ـ محمد بن سليمان بن داود بن الحسن المثنى ت 200 هجري
14 ـ ادريس بن ادريس ت 214 هجري
و استمرت الإمامة بعد هؤلاء ـ و لا تزال ـ وفق الشروط التالية :
1 ـ النسب الحسني أو الحسيني .
2 ـ الدعوة .
3 ـ الثورة .
و لمعرفة بقية أئمتهم حتى سقوط دولة آل حميد الدين في اليمن سنة 1962 م يرجع إلى كتاب ( الزيدية ) للدكتور احمد محمود صبحي الصفحة 587 تحت عنوان ( سلسلة أئمة الزيدية ) .
و يقول السيد احمد حسين شرف الدين الزيدي المعاصر : « و اجمعت الزيدية على أن معرفة الإمام علي واجبة على كل مكلف .
أما في حكم من تقدمه من الخلفاء الثلاثة فزيدية اليمن لا تنكر عليهم شيئاً في ذلك لجواز قيام المفضول عند وجود الأفضل للمصلحة و لمبايعة علي لهم .
و منهم من يوقف تخطئتهم على علمهم ، أي أنهم إذا كانوا غير عالمين باستحقاقه دونهم بعد التحري فلا إثم عليهم و ان اخطأوا ، لأن كل مجتهد مصيب ، و إلا فخطيئتهم كبيرة ، و هذا هو قول الإمام القاسم بن محمد في كتابه ( الأساس ) .
أما الجارودية و الصالحية ـ و هما من فرق الزيدية ، و قد ظهرتا بالعراق ـ فتقولان بأن الأمة ضلت و كفرت في تركها بيعته ، ولم يخطئوا أبا بكر و عمر لسكوت الإمام علي » 48 .
أئمة الاسماعيلية :
و أما أئمة الاسماعيلية فيتسلسلون كالتالي :
أ ـ الأئمة الظاهرون :
1 ـ علي بن أبي طالب
2 ـ الحسن بن علي
3 ـ الحسين بن علي
4 ـ علي بن الحسين زين العابدين
5 ـ محمد بن علي الباقر
6 ـ جعفر بن محمد الصادق
7 ـ إسماعيل بن جعفر الصادق ت 145 هجري
ب ـ الأئمة المستورون :
1 ـ محمد بن إسماعيل ت 183 هجري
2 ـ عبد اللّه الرضا بن محمد بن إسماعيل
3 ـ احمد بن عبد اللّه بن محمد بن إسماعيل
4 ـ الحسين بن احمد بن عبد اللّه بن محمد بن إسماعيل
5 ـ علي بن الحسين بن احمد بن عبد اللّه بن محمد بن إسماعيل
6 ـ عبيد اللّه المهدي الفاطمي ت 322 هجري
الأئمة عند الأباضية :
و ذهبت الأباضية إلى وجوب الإمامة في المجتمع الإسلامي ـ كما ألمحت ـ ، و استدلوا على ذلك :
بأن إقامة الحدود واجبة في الشريعة الإسلامية ، و هي لا تقام إلا بالأئمة و ولاتهم .
و ذهبوا إلى عدم قصر الإمامة على قريش ، لأن الناس سواسية أمام اللّه ، و قد خلقهم من نفس واحدة ، فلا تمييز بين أبناء المسلمين لهذا المنصب ، و ذلك لقوله ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : ( إن أمّر عليكم عبد حبشي مجدوع الأنف فاسمعوا و أطيعوا ما أقام فيكم كتاب اللّه ) .
و الطريق لتنصيب الإمام عندهم هو الاختيار و البيعة .
و تبدأ الإمامة بعد الرسول عندهم بابي بكر الصديق ( رض ) لاستخلاف الرسول له في الصلاة و لإجماع الصحابة على خلافته .
و صححوا من بعدْ خلافة عمر بن الخطاب ( رض ) لإجماع الصحابة أيضاً 49 .
و توقفوا كالخوارج في خلافة الصهرين عثمان و علي و من بعدهما من الأمويين و العباسيين .
و كانت لهم إمامتهم الخاصة في ( عمان ) منذ القرن الثالث الهجري ، و لا تزال قائمة حتى الآن .
و الاباضيون يؤكدون في الكثير من كتبهم على أنهم ليسوا من الخوارج و ان التقوا معهم في بعض العقائد .
و يؤكدون أيضاً على أنهم يحترمون الصهرين و يقولون بعدالتهما ، لأن التخطئة ـ كما يقولون ـ لا تستلزم التفسيق أو التكفير .
العصمة
اشترط الإمامية و الإسماعيلية عصمة الإمام .
قال العلامة الحلي : « يجب أن يكون ( الإمام ) معصوماً ، والا لزم التسلسل .
و التالي باطل .
فالمقدم مثله .
بيان الشرطية :
إن العلة المقتضية لوجوب نصب الإمام جواز الخطأ على المكلف .
فلو جاز عليه الخطأ لوجب افتقاره إلى إمام آخر ليكون لطفاً له و للأمة أيضاً ، و يتسلسل » 50 .
و في هدي آية ﴿ ... إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ 15 يكون نص تعيين الإمام هو نفسه دليل أنه معصوم ، لأن الإمامة ـ كما هو صريح الآية ـ عهد اللّه الذي لا يعهد به لظالم .
و الى هذا يشير الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) بقوله : ( الإمام منا لا يكون إلا معصوماً ، و ليست العصمة في ظاهر الخلقة فتعرف ، و لذلك لا يكون إلا منصوصاً ) .
و استدلوا أيضاً بآية التطهير : ﴿ ... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ 51 .
بتقريب أن المراد من الرجس الذنوب ، ذلك أن الرجس : « القذر حساً أو معنى ، و يطلق على ما يستقبح في الشرع و الفطر السليمة » 52 .
و المراد بـ ( أهل البيت ) : علي و فاطمة و الحسن و الحسين ، لحديث الكساء المروي عن أم سلمة ( رض ) : « قالت : نزلت هذه الآية في بيتي ﴿ ... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ 51 و في البيت سبعة : جبريل و ميكائيل و علي و فاطمة و الحسن و الحسين ( رض ) و أنا على باب البيت .
قلت : ألست من أهل البيت ؟
قال ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : إنك إلى خير ، إنك من أزواج النبي » 53 ، و لحديث المباهلة المروي في صحيح مسلم : 7 / 121 : « لما نزلت هذه الآية ﴿ ... فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ... ﴾ 54 دعا رسول اللّه علياً و فاطمة و حسناً و حسيناً ، فقال : « اللهم هؤلاء أهلي » 55 .
و بوحدة الملاك تعم الآية بمؤداها سائر الأئمة التسعة .
و جاء في كتاب ( نظرية الإمامة ) للدكتور احمد محمود صبحي صفحة 16 ، نقلاً عن كتاب ( الوشيعة ) لموسى جار اللّه ما نصه : « نحن فقهاء أهل السنة و الجماعة نعتبر سيرة الشيخين الصديق و الفاروق أصلاً تعادل سنة النبي الشارع في إثبات الأحكام الشرعية في حياة الأمة و إدارة الدولة .
و ان الخلافة الراشدة معصومة عصمة الرسالة » .
و ذهب محدثوهم إلى القول بعصمة الصحابة و أن كبائرهم صغائر 56 .
و المعروف عند أهل السنة و كذلك الزيدية و الأباضية اشتراط عدالة الإمام .
و اختلفوا في أمر الخروج عليه إذا ظهر منه ما يثبت انتفاء العدالة ، فقال الزيدية و الأباضية بالخروج عليه .
و قال الحنابلة من أهل السنة بحرمة الخروج عليه ، قال ابو الحسن الاشعري ( الحنبلي المذهب ) : « و نرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح و الإقرار بإمامتهم و تضليل من رأى الخروج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة ، و ندين بترك الخروج عليهم بالسيف » 57 58 .
المصدر
http://shiastudies.net/article/arabic/Article.php?id=8548
No comments:
Post a Comment