كان لكلّ مذهب من المذاهب الأربعة مقام خاص في المسجد الحرام، يقوم فيه إمام المذهب ويقتدي به المصلّون، كل إمام في ضلع من أضلاع الكعبة المشرفة، وبعد أن جاء السعوديون إلى منصَّة الحكم أزالوا هذه المقامات الأربعة وجعلوها مقاماً واحداً لإمام من الحنابلة فقط، وبذلك أعادوا الصلاة جماعة استدارة حول الكعبة الشريفة.
وأصبحت هذه المسألة مورد بحث ونقاش بين فقهائنا من جديد بعدما كانت المسألة معنونة في كتب المتقدمين أيضاً ، وقبل الخوض في دراسة دليل المسألة صحة وفساداً نقدم أُموراً:
الأوّل: تاريخ ظهور الصلاة جماعة بهذه الكيفية
يظهر من الأزرقي في «تاريخ مكة المكرمة» أنّ أوّل من أدار الصفوف حول الكعبة هو خالد بن عبدالله القسري، يقول: كان الناس يقومون قيام شهر رمضان في أعلى المسجد الحرام تركّز حربة خلف المقام بربوة فيصلي الإمام خلف الحربة، والناس وراءه فمَن أراد صلى مع الإمام ومَن أراد طاف بالبيت وركع خلف المقام، فلمّا ولي خالد بن عبدالله القسري مكة لعبد الملك بن مروان وحضر شهر رمضان، أمر خالد القراء أن يتقدّموا فيصلوا خلف المقام، وأدار الصفوف حول الكعبة، وذلك أنّ الناس ضاق عليهم أعلى المسجد فأدارهم حول الكعبة.
فقيل له: تقطع الطواف لغير المكتوبة، قال: فأنا آمرهم يطوفون بين كل ترويحتين سبعاً، فأمرهم ففصلوا بين كل ترويحتين بطواف سبع.
فقيل له: فإنّه يكون في مؤخر الكعبة وجوانبها من لا يعلم بانقضاء طواف الطائف من مصل وغيره فيتهيّأ للصلاة، فأمر عبيد الكعبة أن يكبروا حول الكعبة، يقولون: الحمد لله والله أكبر، فإذا بلغوا الركن الأسود في الطواف السادس سكتوا بين التكبيرتين سكتة حتّى يتهيّأ الناس ممّن في الحجر ومن في جوانب المسجد من مصل وغيره فيعرفون ذلك بانقطاع التكبير، ويصلي ويخفّف المصلي صلاته ثم يعودون إلى التكبير حتّى يفرغوا من السبع، ويقوم مسمع فينادي (الصلاة رحمكم الله).
قال: وكان عطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار ونظائرهم من العلماء يرون ذلك ولا ينكرونه.
ثم نقل عن ابن جريج قلت لعطاء: إذا قلّ الناس في المسجد الحرام أحب إليك أن يصلوا خلف المقام أو يكونوا صفاً واحداً حول الكعبة؟
قال: بل يكون صفاً واحداً حول الكعبة وتلا: ( وَ تَرى الْمَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) ( [174]) . ( [175])
ويظهر من كلام الأزرقي أنّ الدافع إلى الصلاة حول الكعبة استدارة هو ضيق المكان في صلاة التراويح، ولم يكن قبله أي سابقة لها، وقد تصدى عبدالملك للخلافة عام 65 هـ بعد وفاة أبيه مروان بن الحكم وتوفّي عام 86 هـ .
وبما أنّه لم تمتد سلطة عبدالملك بن مروان إلى مكة المكرمة الّتي كان قد استولى عليها عبدالله بن الزبير إلى أن قتل هذا الأخير عام 73 هـ فيكون هذا الشكل من الصلاة قد بدأ بين عام 73 هـ و 86 هـ ، ولو تم التعرف على تاريخ ولاية خالد بن عبدالله القسري لتعيّن هذا الأمر بدقة.
الثاني: أوّل من تعرض إلى المسألة من الأصحاب
لم نجد عنواناً لهذه المسألة عند أصحابنا قبل ابن الجنيد فهو أوّل من تعرّض لها حسب اطّلاعنا، نقله العلاّمة عنه وقال: قال ابن الجنيد: الإمام إذا صلى في المسجد الحرام أحاط المصلون حول البيت من حيث لا يكون أحدهم أقرب إلى جدار البيت منه، ولم يذكر علماؤنا ذلك والأقرب الوقوف خلف الإمام للعموم .( [176])
وعلى ضوء هذا فقد جعل الميزان في تأخّر المأموم عن الإمام أو عدم تقدّمه عليه ـ على اختلاف فيما هو الشرط ـ هو أن يكون الفاصل المكاني بين المأموم والكعبة أكثر من الفاصل المكاني بين الإمام والكعبة، وعلى ذلك تجوز الصلاة بالاستدارة التامة لكن برعاية هذا الشرط.
مثلاً: إذا كان الإمام واقفاً حيال مقام إبراهيم (عليه السلام) فالفاصل بينه وبين الكعبة حوالي 12 متراً تقريباً، فيجب أن يكون الفاصل المكاني المستدير في تمام الدور أكثر من هذا المقدار حتّى يصدق كون المأموم خلف الإمام أو غير متقدم عليه. وسيوافيك أنّ هذا الشرط إنّما يتحقّق في بعض الصور لا كلّها.
ولم نجد من تعرض للمسألة بعد ابن الجنيد إلى عصر العلاّمة الحلي، وقد خلت كتب الشيخ الطوسي من عنوان هذه المسألة ومن أتى بعده كابن البراج، وابن زهرة وابن إدريس والمحقّق وغيرهم. وإليك نقل كلمات الآخرين:
الثالث: نقل كلمات الآخرين
قال العلاّمة: المصلي خارج الكعبة وهو مشاهد لها يستقبل أي جدرانها شاء وكذا لو كان في حكم المشاهد، ولو تعدّدوا وأرادوا الاجتماع ففي صلاتهم مستديرين حولها إشكال، ولا إشكال لو كانوا منفردين .( [177])
ولعل وجه الإشكال عند العلاّمة غيره عند ابن الجنيد، فالإشكال عند الثاني هو تقدّم المأموم على الإمام في بعض الأحايين، ولذلك لو كان الفاصل المكاني بين الكعبة والمأموم أكثر من الفاصل المكاني بينها وبين الإمام لجاز عنده بالاستدارة الكاملة.
وأمّا الإشكال عند العلاّمة فلعله هو مسألة المواجهة وكون المأموم مواجهاً للإمام في نصف الدائرة وهو أمر غريب .
فإنّ المأموم يقف خلف الإمام أو مع الإمام على جهة واحدة، ولكنّه في نصف الدائرة يقف مواجهاً للإمام ومقابلاً له وهوأمر غير متعارف.
وقد صرح بهذا، في المنتهى وقال: لو صلّى الإمام في المسجد الحرام إلى ناحية من نواحي الكعبة واستدار المأمومون حولها صحت صلاة مَن خلف الإمام خاصة، سواء أكان بُعد المأمومين في الجهة الأُخرى عنها أكثر من بُعد الإمام أو لا، خلافاً للشافعي وأبي حنيفة.
لنا: إنّ موقف المأموم خلف الإمام أو إلى جانبه إنّما يحصل في جهة واحدة، فصلاة من غايرها باطلة، ولأنّهم وقفوا بين يدي الإمام فتبطل صلاتهم .( [178])
وعبارته كالصريح في أنّ المحذور ليس هو تقدّم المأموم بل مواجهته للإمام، وهذا صريح قوله: «ولأنّهم وقفوا بين يدي الإمام».
فظهر ممّا نقلناه أنّ مشكلة صلاة الجماعة بالإستدارة أمران:
1. لزوم تقدّم المأموم على الإمام في بعض الصور.
2. مواجهة المأموم للإمام أحياناً.
ويظهر من الشهيد في «البيان» أنّ المانع عنده هو الوجه الأوّل، قال: ولو صلّوا جماعة فلهم الاستدارة حولها وينبغي أن لا يكون المأموم إليها أقرب من الإمام.
ويظهر منه (قدس سره) في كتاب «الدروس» أنّ المانع هو نفس ما ذكره في البيان حيث قال: أن لا يتقدّم المأموم على الإمام بعقبه، ولا عبرة بمسجده إلاّ في المستديرين حول الكعبة بحيث لا يكون المأموم أقرب إليها.( [179])
وقال في «الذكرى»: لو استطال صف المأمومين مع المشاهدة حتّى خرج عن الكعبة، بطلت صلاة الخارج لعدم إجزاء الجهة هنا. ولو استداروا صحّ، للإجماع عليه عملاً في كلّ الأعصار السالفة. نعم، يشترط أن لا يكون المأموم أقرب إلى الكعبة من الإمام .( [180])
وظاهر هذا الكلام أنّ الإشكال عنده هو تقدّم المأموم على الإمام، ولذلك اشترط أن لا يكون المأموم أقرب إلى الكعبة من الإمام.
وأمّا الشهيد الثاني فيظهر منه أيضاً أنّ الإشكال هو تقدّم المأموم على الإمام في الصلاة استدارة، فقال: إنّ قول المحقّق «ولا يجوز أن يقف المأموم قدّام الإمام» مفهومه الاعتبار بتساوي الأقدام حال القيام،... إلى أن قال: وأمّا في حال الركوع فظاهرهم أنّه كذلك وأنّه لا اعتبار بتقدّم رأس المأموم، وكذا حال السجود والتشهد فيجوز تقدم رأس المأموم على رأسه. لكن يستثنى منه مالو كانت الصلاة حول الكعبة فإنّه لا يجوز أن يكون مسجد المأموم أقرب إليها.( [181])
وأمّا سبطه فقد ألمح إلى كلا الإشكالين حيث ذكر كلام ابن الجنيد والشهيد في الذكرى اللّذين ركّزا على الإشكال الأوّل، ثم نقل كلام العلاّمة في «التذكرة» و «المنتهى» الّذي يشير إلى الإشكال الثاني وقال في آخر كلامه: ولم أقف في ذلك على رواية من طرق الأصحاب، والمسألة محل تردّد، ولا ريب أنّ الوقوف في جهة الإمام أولى وأحوط .( [182])
وأمّا الشيخ الأكبر كاشف الغطاء فلم يهتم بالإشكال الثاني وإنّما
اهتم بالاشكال الأوّل وقال: وحول الكعبة يصح الدوران في الصف
ومقابلة الوجوهِ الوجهَ بشرط أن تكون الفاصلة من جانب المأمومين أوسع .( [183]) وسيأتي حدّ الفاصل اللازم بين الإمام والكعبة، وبينها وبين المأموم فانتظر.
إلى غير ذلك من الكلمات للمتأخرين والمعاصرين وربّما نمرّ على كلماتهم عند الاستدلال على حكم المسألة.
الرابع: ما هو الأصل في المسألة
إنّ الأصل في المقام هو الفساد إلاّ أن يدل دليل على خلافه، وذلك لأنّ العبادات أُمور توقيفية لا دور للعقلاء فيها، فإذا شُك في امتثال الأمر بالفرد الخاص فالأصل هو الفساد .
وإن شئت قلت: إنّ مشروعية العبادات أمر توقيفي فما عُلم كونه مشروعاً فهو مشروع، وما شُك في مشروعيته فهو ممنوع وإن كان في الواقع مشروعاً، وهذا كإتيان الصلاة مع قبض اليد اليسرى في اليمنى، حيث إنّ للصلاة فردين ومصداقين: أحدهما إتيان الصلاة بالسدل والآخر بالقبض، فالشك في جواز القبض كاف في كونه بدعة مبطلة للصلاة. وهذا هو الأصل في المقام.
وربّما يقرر بأنّ الأصل في المقام هوالصحة، وهو أنّ صلاة الجماعة ترجع في حقيقتها إلى أنّها هي عدل للواجب التخييري، لا أنّها من مسقطات وجوب الصلاة، فإذاً يدور الأمر بين كون الواجب هو الفرادى ومطلق الجماعة وبين كون الواجب هو الفرادى والجماعة المقيّدة بأنّها بغير الاستدارة، ومقتضى الأصل هو البراءة عن هذا التقييد ( [184]).
يلاحظ عليه: أنّ المأمور به هو طبيعة الصلاة والصلاة جماعة وفرادى من مصاديق هذا الواجب، والتخيير بين المصداقين عقلي لا شرعي، وعلى هذا فيكون مرجع الشك إلى سقوط الطبيعة بالفرد الخاص والأصل خلافه، فإنّ قاعدة الاشتغال محكمة حتّى يثبت الامتثال. وبالجملة إذا كانت للطبيعة المأمور بها مصاديق مختلفة ويقطع بحصول الامتثال ببعض المصاديق ويُشك في حصوله بالبعض الآخر يكون المقام محكوماً بالاشتغال، لأنّه قبيل الشك في السقوط فلو أمر المولى بتطهير النجس بالماء وشك في صحة التطهير بماء الكبريت فالاشتغال محكم ما لم يكن هنا إطلاق لفظي حاكم على الأصل .
وقد صرح بما ذكرنا السيد الحكيم (قدس سره) بتعبير آخر حيث قال:
تارة يكون الشك في صحة الجماعة حدوثاً وأُخرى يكون بقاءً، فإن كان الأوّل فالمرجع أصالة عدم انعقاد الجماعة، لأنّ انعقادها إنّما يكون بجعل الإمامة للإمام من المأموم في ظرف اجتماع الشرائط، فإذا شُكّ في شرطية شيء مفقود أو مانعية شيء موجود ـ للإمام أو المأموم أو الائتمام ـ فقد شُك في الانعقاد الملازم للشك في حصول الإمامة للإمام والمأمومية للمأموم، والأصل العدم في جميع ذلك، وبعبارة أُخرى الشك في المقام في ترتب الأثر على الجعل المذكور ومقتضى الأصل عدمه.( [185])
وربّما يتصور أنّ الأصل العملي محكوم بالإطلاقات الواردة في صلاة الجماعة، وذلك لأنّ مقتضى الإطلاقات الواردة في صلاة الجماعة عدم اشتراط شيء من تأخّر المأموم عن الإمام أو عدم تقدّمه عليه، غاية الأمر خرج منها ما إذا لم تكن الصلاة إلاّ على جهة واحدة وعلى خط مستقيم فيشترط فيه التأخر، أو عدم التقدم، وأمّا إذا أمكنت الصلاة استدارة وعلى جميع الجهات فالإطلاقات الواردة في باب الجماعة محكمة لا يشترط فيها شيء لا عدم التقدّم ولا عدم التأخّر.
يلاحظ عليه: بأنّه ماذا يريد من الإطلاقات في المقام، فهل يريد ما ورد في التأكيد على استحبابها في الفريضة، الّذي عقد لها الحر العاملي ـ في الوسائل ـ باباً تحت عنوان: « باب تأكد استحبابها في الفرائض »، ومن المعلوم أنّها ليست في مقام البيان لشرائط الجماعة، فإنّ الروايات الواردة في الحث على الجماعة كلها نظير قول أمير المؤمنين (عليه السلام) : «من سمع النداء ولم يجبه من غير علّة فلا صلاة له».( [186])
أو أنّه يريد ما ورد: « أنّ أقل ما تنعقد به الجماعة اثنان » كقول زرارة في حديث قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : الرجلان يكونان جماعة؟ فقال (عليه السلام) : «نعم، ويقوم الرجل عن يمين الإمام».( [187])
وبالجملة هذه الروايات ونظائرها ناظرة إلى تشريع الجماعة واستحبابها المؤكّد، ولا نظر لبيان الشرائط والأجزاء حتّى يتمسك به في مورد الشك على نفي الجزئية.
فخرجنا بالأمرين التاليين:
1. أنّ الأصل الأوّلي هو الفساد، لأنّه من قبيل الشك في الامتثال، أو الشك في انعقاد الجماعة.
2. أنّ الأصل غير محكوم بالإطلاقات، إذ ليس هنا إطلاق حاكم على الأصل ويلزم الرجوع إلى أدلّة الشروط في المقام، وإليك البيان.
قد سبق أنّ الإشكال في المقام يدور على أمرين:
أ. إشكال تقدّم المأموم على الإمام في بعض الصور.
ب. مواجهة المأموم مع الإمام في بعض الأحايين.
وإليك دراستهما.
الأوّل: شرطية عدم تقدّم المأموم على الإمام
قال المحقّق: ولا يجوز أن يقف المأموم قدّام الإمام. ( [188]) واستُدل عليه بعدم الخلاف بين الأصحاب، وظاهر «المعتبر» الإجماع عليه من غير فرق بين الابتداء والاستدامة كما هو صريح معقد بعضها اقتصاراً في العبادة التوقيفية على ما علم ثبوته من فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) والصحابة والتابعين وتابعي التابعين وسيرة سائر فرق المسلمين في جميع الأعصار والأمصار بعد قصور الإطلاقات المساقة لغيره عن تناول مثل ذلك .( [189])
وظاهر كلامه كظاهر كلام الآخرين أنّه ليس هناك دليل لفظي يدل على عدم جواز تقدم المأموم على الإمام، ولو كان فإنّما هو إشارات وتلميحات، غير أنّ معقد الإجماع يعمّ عامّة الحالات سواء أكان في المسجد الحرام أم غيره.
ولا يمكن أن يقال: إنّ الإجماع دليل لبّي يقتصر فيه على القدر المتيقّن وهوما إذا صلّوا على جهة واحدة.
بل يمكن أن يستظهر ذلك من كلمة الإمام بأنّه إمام يقتدى به في الأقوال والأفعال، ولازم ذلك عدم كون المأموم متقدماً على الإمام. ولذلك نرى أنّه ورد في الروايات أنّ الإمام قد سُئل عن رجل أمّ قوماً فصلى بهم ركعة ثم مات؟ قال (عليه السلام) : «يقدّمون رجلاً آخر فيعتد بالركعة ويطرحون الميت خلفهم ويغتسل مَنْ مسه» .( [190])
وعلى كل تقدير لا يمكن أن نشك في شرطية عدم تقدّم المأموم على الإمام في حال من الأحوال وفي مسجد دون مسجد وإن كان عدم جواز مساواة الإمام والمأموم موضع تأمل ونقاش.
إذا علمت ذلك فالمهم هو تبيين مدار التقدّم وملاكه.
فلو كان الملاك في التقدّم والتأخّر هو عدم أقربية المأموم إلى الكعبة من الإمام، بل يكونان متساويين أو يكون المأموم أبعد من الكعبة من الإمام، فلازم ذلك صحة الصلاة استدارة بشرط أن تكون الدائرة الّتي وقف عليها الإمام غير الدائرة الّتي يقف عليها المأموم وتكون الدائرة الثانية أبعد من الدائرة الأُولى حتّى تكون المسافة بين المأموم والكعبة أكثر من المسافة بين الإمام والكعبة في عامّة الحالات.
وذلك لأنّ الكعبة لمّا كانت مربعة تقريبا ( [191]) فلو دارت عليها دائرة، فخطوط هذه الدائرة بالإضافة إلى الكعبة ليست متساوية، بل ما يحاذي منها الزوايا أقرب ممّا يحاذي الأضلاع بطبيعة الحال، لفرض كون الكعبة على شكل المربع المستطيل فالخط المقابل للضلع أبعد من الكعبة بالنسبة إلى الخط المقابل للزاوية بالضرورة كما في الرسم المرفق.
وأصبحت هذه المسألة مورد بحث ونقاش بين فقهائنا من جديد بعدما كانت المسألة معنونة في كتب المتقدمين أيضاً ، وقبل الخوض في دراسة دليل المسألة صحة وفساداً نقدم أُموراً:
الأوّل: تاريخ ظهور الصلاة جماعة بهذه الكيفية
يظهر من الأزرقي في «تاريخ مكة المكرمة» أنّ أوّل من أدار الصفوف حول الكعبة هو خالد بن عبدالله القسري، يقول: كان الناس يقومون قيام شهر رمضان في أعلى المسجد الحرام تركّز حربة خلف المقام بربوة فيصلي الإمام خلف الحربة، والناس وراءه فمَن أراد صلى مع الإمام ومَن أراد طاف بالبيت وركع خلف المقام، فلمّا ولي خالد بن عبدالله القسري مكة لعبد الملك بن مروان وحضر شهر رمضان، أمر خالد القراء أن يتقدّموا فيصلوا خلف المقام، وأدار الصفوف حول الكعبة، وذلك أنّ الناس ضاق عليهم أعلى المسجد فأدارهم حول الكعبة.
فقيل له: تقطع الطواف لغير المكتوبة، قال: فأنا آمرهم يطوفون بين كل ترويحتين سبعاً، فأمرهم ففصلوا بين كل ترويحتين بطواف سبع.
فقيل له: فإنّه يكون في مؤخر الكعبة وجوانبها من لا يعلم بانقضاء طواف الطائف من مصل وغيره فيتهيّأ للصلاة، فأمر عبيد الكعبة أن يكبروا حول الكعبة، يقولون: الحمد لله والله أكبر، فإذا بلغوا الركن الأسود في الطواف السادس سكتوا بين التكبيرتين سكتة حتّى يتهيّأ الناس ممّن في الحجر ومن في جوانب المسجد من مصل وغيره فيعرفون ذلك بانقطاع التكبير، ويصلي ويخفّف المصلي صلاته ثم يعودون إلى التكبير حتّى يفرغوا من السبع، ويقوم مسمع فينادي (الصلاة رحمكم الله).
قال: وكان عطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار ونظائرهم من العلماء يرون ذلك ولا ينكرونه.
ثم نقل عن ابن جريج قلت لعطاء: إذا قلّ الناس في المسجد الحرام أحب إليك أن يصلوا خلف المقام أو يكونوا صفاً واحداً حول الكعبة؟
قال: بل يكون صفاً واحداً حول الكعبة وتلا: ( وَ تَرى الْمَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) ( [174]) . ( [175])
ويظهر من كلام الأزرقي أنّ الدافع إلى الصلاة حول الكعبة استدارة هو ضيق المكان في صلاة التراويح، ولم يكن قبله أي سابقة لها، وقد تصدى عبدالملك للخلافة عام 65 هـ بعد وفاة أبيه مروان بن الحكم وتوفّي عام 86 هـ .
وبما أنّه لم تمتد سلطة عبدالملك بن مروان إلى مكة المكرمة الّتي كان قد استولى عليها عبدالله بن الزبير إلى أن قتل هذا الأخير عام 73 هـ فيكون هذا الشكل من الصلاة قد بدأ بين عام 73 هـ و 86 هـ ، ولو تم التعرف على تاريخ ولاية خالد بن عبدالله القسري لتعيّن هذا الأمر بدقة.
الثاني: أوّل من تعرض إلى المسألة من الأصحاب
لم نجد عنواناً لهذه المسألة عند أصحابنا قبل ابن الجنيد فهو أوّل من تعرّض لها حسب اطّلاعنا، نقله العلاّمة عنه وقال: قال ابن الجنيد: الإمام إذا صلى في المسجد الحرام أحاط المصلون حول البيت من حيث لا يكون أحدهم أقرب إلى جدار البيت منه، ولم يذكر علماؤنا ذلك والأقرب الوقوف خلف الإمام للعموم .( [176])
وعلى ضوء هذا فقد جعل الميزان في تأخّر المأموم عن الإمام أو عدم تقدّمه عليه ـ على اختلاف فيما هو الشرط ـ هو أن يكون الفاصل المكاني بين المأموم والكعبة أكثر من الفاصل المكاني بين الإمام والكعبة، وعلى ذلك تجوز الصلاة بالاستدارة التامة لكن برعاية هذا الشرط.
مثلاً: إذا كان الإمام واقفاً حيال مقام إبراهيم (عليه السلام) فالفاصل بينه وبين الكعبة حوالي 12 متراً تقريباً، فيجب أن يكون الفاصل المكاني المستدير في تمام الدور أكثر من هذا المقدار حتّى يصدق كون المأموم خلف الإمام أو غير متقدم عليه. وسيوافيك أنّ هذا الشرط إنّما يتحقّق في بعض الصور لا كلّها.
ولم نجد من تعرض للمسألة بعد ابن الجنيد إلى عصر العلاّمة الحلي، وقد خلت كتب الشيخ الطوسي من عنوان هذه المسألة ومن أتى بعده كابن البراج، وابن زهرة وابن إدريس والمحقّق وغيرهم. وإليك نقل كلمات الآخرين:
الثالث: نقل كلمات الآخرين
قال العلاّمة: المصلي خارج الكعبة وهو مشاهد لها يستقبل أي جدرانها شاء وكذا لو كان في حكم المشاهد، ولو تعدّدوا وأرادوا الاجتماع ففي صلاتهم مستديرين حولها إشكال، ولا إشكال لو كانوا منفردين .( [177])
ولعل وجه الإشكال عند العلاّمة غيره عند ابن الجنيد، فالإشكال عند الثاني هو تقدّم المأموم على الإمام في بعض الأحايين، ولذلك لو كان الفاصل المكاني بين الكعبة والمأموم أكثر من الفاصل المكاني بينها وبين الإمام لجاز عنده بالاستدارة الكاملة.
وأمّا الإشكال عند العلاّمة فلعله هو مسألة المواجهة وكون المأموم مواجهاً للإمام في نصف الدائرة وهو أمر غريب .
فإنّ المأموم يقف خلف الإمام أو مع الإمام على جهة واحدة، ولكنّه في نصف الدائرة يقف مواجهاً للإمام ومقابلاً له وهوأمر غير متعارف.
وقد صرح بهذا، في المنتهى وقال: لو صلّى الإمام في المسجد الحرام إلى ناحية من نواحي الكعبة واستدار المأمومون حولها صحت صلاة مَن خلف الإمام خاصة، سواء أكان بُعد المأمومين في الجهة الأُخرى عنها أكثر من بُعد الإمام أو لا، خلافاً للشافعي وأبي حنيفة.
لنا: إنّ موقف المأموم خلف الإمام أو إلى جانبه إنّما يحصل في جهة واحدة، فصلاة من غايرها باطلة، ولأنّهم وقفوا بين يدي الإمام فتبطل صلاتهم .( [178])
وعبارته كالصريح في أنّ المحذور ليس هو تقدّم المأموم بل مواجهته للإمام، وهذا صريح قوله: «ولأنّهم وقفوا بين يدي الإمام».
فظهر ممّا نقلناه أنّ مشكلة صلاة الجماعة بالإستدارة أمران:
1. لزوم تقدّم المأموم على الإمام في بعض الصور.
2. مواجهة المأموم للإمام أحياناً.
ويظهر من الشهيد في «البيان» أنّ المانع عنده هو الوجه الأوّل، قال: ولو صلّوا جماعة فلهم الاستدارة حولها وينبغي أن لا يكون المأموم إليها أقرب من الإمام.
ويظهر منه (قدس سره) في كتاب «الدروس» أنّ المانع هو نفس ما ذكره في البيان حيث قال: أن لا يتقدّم المأموم على الإمام بعقبه، ولا عبرة بمسجده إلاّ في المستديرين حول الكعبة بحيث لا يكون المأموم أقرب إليها.( [179])
وقال في «الذكرى»: لو استطال صف المأمومين مع المشاهدة حتّى خرج عن الكعبة، بطلت صلاة الخارج لعدم إجزاء الجهة هنا. ولو استداروا صحّ، للإجماع عليه عملاً في كلّ الأعصار السالفة. نعم، يشترط أن لا يكون المأموم أقرب إلى الكعبة من الإمام .( [180])
وظاهر هذا الكلام أنّ الإشكال عنده هو تقدّم المأموم على الإمام، ولذلك اشترط أن لا يكون المأموم أقرب إلى الكعبة من الإمام.
وأمّا الشهيد الثاني فيظهر منه أيضاً أنّ الإشكال هو تقدّم المأموم على الإمام في الصلاة استدارة، فقال: إنّ قول المحقّق «ولا يجوز أن يقف المأموم قدّام الإمام» مفهومه الاعتبار بتساوي الأقدام حال القيام،... إلى أن قال: وأمّا في حال الركوع فظاهرهم أنّه كذلك وأنّه لا اعتبار بتقدّم رأس المأموم، وكذا حال السجود والتشهد فيجوز تقدم رأس المأموم على رأسه. لكن يستثنى منه مالو كانت الصلاة حول الكعبة فإنّه لا يجوز أن يكون مسجد المأموم أقرب إليها.( [181])
وأمّا سبطه فقد ألمح إلى كلا الإشكالين حيث ذكر كلام ابن الجنيد والشهيد في الذكرى اللّذين ركّزا على الإشكال الأوّل، ثم نقل كلام العلاّمة في «التذكرة» و «المنتهى» الّذي يشير إلى الإشكال الثاني وقال في آخر كلامه: ولم أقف في ذلك على رواية من طرق الأصحاب، والمسألة محل تردّد، ولا ريب أنّ الوقوف في جهة الإمام أولى وأحوط .( [182])
وأمّا الشيخ الأكبر كاشف الغطاء فلم يهتم بالإشكال الثاني وإنّما
اهتم بالاشكال الأوّل وقال: وحول الكعبة يصح الدوران في الصف
ومقابلة الوجوهِ الوجهَ بشرط أن تكون الفاصلة من جانب المأمومين أوسع .( [183]) وسيأتي حدّ الفاصل اللازم بين الإمام والكعبة، وبينها وبين المأموم فانتظر.
إلى غير ذلك من الكلمات للمتأخرين والمعاصرين وربّما نمرّ على كلماتهم عند الاستدلال على حكم المسألة.
الرابع: ما هو الأصل في المسألة
إنّ الأصل في المقام هو الفساد إلاّ أن يدل دليل على خلافه، وذلك لأنّ العبادات أُمور توقيفية لا دور للعقلاء فيها، فإذا شُك في امتثال الأمر بالفرد الخاص فالأصل هو الفساد .
وإن شئت قلت: إنّ مشروعية العبادات أمر توقيفي فما عُلم كونه مشروعاً فهو مشروع، وما شُك في مشروعيته فهو ممنوع وإن كان في الواقع مشروعاً، وهذا كإتيان الصلاة مع قبض اليد اليسرى في اليمنى، حيث إنّ للصلاة فردين ومصداقين: أحدهما إتيان الصلاة بالسدل والآخر بالقبض، فالشك في جواز القبض كاف في كونه بدعة مبطلة للصلاة. وهذا هو الأصل في المقام.
وربّما يقرر بأنّ الأصل في المقام هوالصحة، وهو أنّ صلاة الجماعة ترجع في حقيقتها إلى أنّها هي عدل للواجب التخييري، لا أنّها من مسقطات وجوب الصلاة، فإذاً يدور الأمر بين كون الواجب هو الفرادى ومطلق الجماعة وبين كون الواجب هو الفرادى والجماعة المقيّدة بأنّها بغير الاستدارة، ومقتضى الأصل هو البراءة عن هذا التقييد ( [184]).
يلاحظ عليه: أنّ المأمور به هو طبيعة الصلاة والصلاة جماعة وفرادى من مصاديق هذا الواجب، والتخيير بين المصداقين عقلي لا شرعي، وعلى هذا فيكون مرجع الشك إلى سقوط الطبيعة بالفرد الخاص والأصل خلافه، فإنّ قاعدة الاشتغال محكمة حتّى يثبت الامتثال. وبالجملة إذا كانت للطبيعة المأمور بها مصاديق مختلفة ويقطع بحصول الامتثال ببعض المصاديق ويُشك في حصوله بالبعض الآخر يكون المقام محكوماً بالاشتغال، لأنّه قبيل الشك في السقوط فلو أمر المولى بتطهير النجس بالماء وشك في صحة التطهير بماء الكبريت فالاشتغال محكم ما لم يكن هنا إطلاق لفظي حاكم على الأصل .
وقد صرح بما ذكرنا السيد الحكيم (قدس سره) بتعبير آخر حيث قال:
تارة يكون الشك في صحة الجماعة حدوثاً وأُخرى يكون بقاءً، فإن كان الأوّل فالمرجع أصالة عدم انعقاد الجماعة، لأنّ انعقادها إنّما يكون بجعل الإمامة للإمام من المأموم في ظرف اجتماع الشرائط، فإذا شُكّ في شرطية شيء مفقود أو مانعية شيء موجود ـ للإمام أو المأموم أو الائتمام ـ فقد شُك في الانعقاد الملازم للشك في حصول الإمامة للإمام والمأمومية للمأموم، والأصل العدم في جميع ذلك، وبعبارة أُخرى الشك في المقام في ترتب الأثر على الجعل المذكور ومقتضى الأصل عدمه.( [185])
وربّما يتصور أنّ الأصل العملي محكوم بالإطلاقات الواردة في صلاة الجماعة، وذلك لأنّ مقتضى الإطلاقات الواردة في صلاة الجماعة عدم اشتراط شيء من تأخّر المأموم عن الإمام أو عدم تقدّمه عليه، غاية الأمر خرج منها ما إذا لم تكن الصلاة إلاّ على جهة واحدة وعلى خط مستقيم فيشترط فيه التأخر، أو عدم التقدم، وأمّا إذا أمكنت الصلاة استدارة وعلى جميع الجهات فالإطلاقات الواردة في باب الجماعة محكمة لا يشترط فيها شيء لا عدم التقدّم ولا عدم التأخّر.
يلاحظ عليه: بأنّه ماذا يريد من الإطلاقات في المقام، فهل يريد ما ورد في التأكيد على استحبابها في الفريضة، الّذي عقد لها الحر العاملي ـ في الوسائل ـ باباً تحت عنوان: « باب تأكد استحبابها في الفرائض »، ومن المعلوم أنّها ليست في مقام البيان لشرائط الجماعة، فإنّ الروايات الواردة في الحث على الجماعة كلها نظير قول أمير المؤمنين (عليه السلام) : «من سمع النداء ولم يجبه من غير علّة فلا صلاة له».( [186])
أو أنّه يريد ما ورد: « أنّ أقل ما تنعقد به الجماعة اثنان » كقول زرارة في حديث قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : الرجلان يكونان جماعة؟ فقال (عليه السلام) : «نعم، ويقوم الرجل عن يمين الإمام».( [187])
وبالجملة هذه الروايات ونظائرها ناظرة إلى تشريع الجماعة واستحبابها المؤكّد، ولا نظر لبيان الشرائط والأجزاء حتّى يتمسك به في مورد الشك على نفي الجزئية.
فخرجنا بالأمرين التاليين:
1. أنّ الأصل الأوّلي هو الفساد، لأنّه من قبيل الشك في الامتثال، أو الشك في انعقاد الجماعة.
2. أنّ الأصل غير محكوم بالإطلاقات، إذ ليس هنا إطلاق حاكم على الأصل ويلزم الرجوع إلى أدلّة الشروط في المقام، وإليك البيان.
قد سبق أنّ الإشكال في المقام يدور على أمرين:
أ. إشكال تقدّم المأموم على الإمام في بعض الصور.
ب. مواجهة المأموم مع الإمام في بعض الأحايين.
وإليك دراستهما.
الأوّل: شرطية عدم تقدّم المأموم على الإمام
قال المحقّق: ولا يجوز أن يقف المأموم قدّام الإمام. ( [188]) واستُدل عليه بعدم الخلاف بين الأصحاب، وظاهر «المعتبر» الإجماع عليه من غير فرق بين الابتداء والاستدامة كما هو صريح معقد بعضها اقتصاراً في العبادة التوقيفية على ما علم ثبوته من فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) والصحابة والتابعين وتابعي التابعين وسيرة سائر فرق المسلمين في جميع الأعصار والأمصار بعد قصور الإطلاقات المساقة لغيره عن تناول مثل ذلك .( [189])
وظاهر كلامه كظاهر كلام الآخرين أنّه ليس هناك دليل لفظي يدل على عدم جواز تقدم المأموم على الإمام، ولو كان فإنّما هو إشارات وتلميحات، غير أنّ معقد الإجماع يعمّ عامّة الحالات سواء أكان في المسجد الحرام أم غيره.
ولا يمكن أن يقال: إنّ الإجماع دليل لبّي يقتصر فيه على القدر المتيقّن وهوما إذا صلّوا على جهة واحدة.
بل يمكن أن يستظهر ذلك من كلمة الإمام بأنّه إمام يقتدى به في الأقوال والأفعال، ولازم ذلك عدم كون المأموم متقدماً على الإمام. ولذلك نرى أنّه ورد في الروايات أنّ الإمام قد سُئل عن رجل أمّ قوماً فصلى بهم ركعة ثم مات؟ قال (عليه السلام) : «يقدّمون رجلاً آخر فيعتد بالركعة ويطرحون الميت خلفهم ويغتسل مَنْ مسه» .( [190])
وعلى كل تقدير لا يمكن أن نشك في شرطية عدم تقدّم المأموم على الإمام في حال من الأحوال وفي مسجد دون مسجد وإن كان عدم جواز مساواة الإمام والمأموم موضع تأمل ونقاش.
إذا علمت ذلك فالمهم هو تبيين مدار التقدّم وملاكه.
فلو كان الملاك في التقدّم والتأخّر هو عدم أقربية المأموم إلى الكعبة من الإمام، بل يكونان متساويين أو يكون المأموم أبعد من الكعبة من الإمام، فلازم ذلك صحة الصلاة استدارة بشرط أن تكون الدائرة الّتي وقف عليها الإمام غير الدائرة الّتي يقف عليها المأموم وتكون الدائرة الثانية أبعد من الدائرة الأُولى حتّى تكون المسافة بين المأموم والكعبة أكثر من المسافة بين الإمام والكعبة في عامّة الحالات.
وذلك لأنّ الكعبة لمّا كانت مربعة تقريبا ( [191]) فلو دارت عليها دائرة، فخطوط هذه الدائرة بالإضافة إلى الكعبة ليست متساوية، بل ما يحاذي منها الزوايا أقرب ممّا يحاذي الأضلاع بطبيعة الحال، لفرض كون الكعبة على شكل المربع المستطيل فالخط المقابل للضلع أبعد من الكعبة بالنسبة إلى الخط المقابل للزاوية بالضرورة كما في الرسم المرفق.
الكعبة المشرفة
وعلى ذلك فيجب أن تكون الدائرة الّتي يقف عليها المأمومون أكبر من الدائرة الّتي قام عليها الإمام، أي أبعد عن الكعبة في جميع النقاط، وإلاّ فمجرد كون الفاصل المكاني بين المأموم والكعبة أكبر منه بين الإمام والكعبة، لا يكفي ـ كما هو الظاهر من الكلمات الماضية ـ مالم يكن الفصل على حّد يكون الفصل أكبر في عامة الحالات، وهذا كما في الرسم التالي.
الكعبة المشرفة
l
l
l
l
موقف الإمام
موقف المأمومين
فإن الشرط ـ أعني: عدم تقدم المأموم ـ محفوظ في جميع الحالات.
وبذلك يعلم أنّ مجرّد كون المأموم خلفاً أو جانباً بحسب الدائرة البركاليّة، لا يلازم عدم أقربيّته إلى الكعبة من الإمام، ضرورة زيادة جوانب الكعبة بل لابد أن تكون الدائرة الّتي وقف عليها المأموم أوسع من الدائرة الّتي وقف عليها الإمام على نحو يكون الإمام أقرب إلى الكعبة من المأموم في عامة الحالات كما هو ظاهر في الرسم المتقدّم .
وأمّا لو كان الميزان في التقدم هو نفس موقف الإمام مع قطع النظر عن الأقربية والأبعدية بالنسبة إلى الكعبة، فحينئذ لو وقف المأمومون على نفس الدائرة الّتي وقف عليها الإمام لصدق عدم التقدم، وهذا واضح، مثلاً: لو أمر الضابط الجنود أن يقفوا بشكل دائري، فوقفوا على خط دائري جنباً إلى جنب، فيصدق عدم تقدّم أحدهم على الآخرين.
وإلى ما ذكرنا يشير صاحب الجواهر بقوله: بإمكان دعوى صدق الخلْف أو الجانب، إذ هما بالنسبة إلى كل واحد بحسبه ولو بملاحظة الدائرة البركالية .( [192])
والمتبادر من معاقد الاجماعات والإشارات الواردة في الروايات أنّ الميزان عدم تقدّم المأموم على موقف الإمام من دون لحاظ الجهة الّتي يتّجهان لها.
وبعبارة أُخرى: الملاك في تحقّق هذا الشرط موقف كل من الإمام والمأموم في غير المسجد الحرام باتفاق الفقهاء، فلابد أن يكون هو نفس الملاك في المسجد الحرام أيضاً، وإلاّ يجب أن يلتزم بأحد أمرين:
1. أن يكون الملاك في غير المسجد الحرام هو موقف الإمام والمأموم، وأمّا في المسجد الحرام فالملاك هو الكعبة بأن لا يكون المأموم أقرب إلى الكعبة من الإمام.
2. مراعاة كلا الأمرين.
والأوّل أمر غريب لعدم الدليل على التفريق بين المسجد الحرام وسائر الأمكنة، والثاني موافق للاحتياط ولكن ليس لاعتبار الجمع دليل صالح.
وبذلك يظهر أنّ مشكلة تقدّم المأموم على الإمام في الصلاة الاستدارية إمّا غير متحقّق مطلقاً إذا قلنا بأنّ الميزان هو ملاحظة موقف الإمام، وإمّا غير متحقّق في بعض الدوائر ومتحقّق في البعض الآخر.
الثاني: إشكال المواجهة
الإشكال الثاني في المسألة هو لزوم المواجهة بأن يكون المأموم مواجهاً للإمام دون أن يكون في جنبه أو خلفه، وتظهر المواجهة بوضوح في النصف الثاني من الدائرة، مع أنّه أمر غير معهود، ولذلك اشترط بعض القائلين بالجواز بكون استقبال الإمام والمأمومين إلى جهة واحدة. إذ لو قيل بالجواز مطلقاً يلزم جواز الجماعة في داخل الكعبة على التعاكس بأن يكون وجه كل منهما إلى الآخر وهو ممّا لا مجال للالتزام به .( [193])
والحق أنّ هذا الاشكال يستحق التأمّل، وما دلّ على جواز إقامة الصلاة جماعة منصرف إلى الفرد الشائع ، وأما هذا الفرد النادر فإطلاق الأدلة على فرض وجوده منصرفة عنه.
فإن قلت: إنّ الشكل الهندسي للمسجد الحرام كان دائرياً منذ أن بنيت الكعبة من قبل نبي الله إبراهيم (عليه السلام) ، لأنّ الطواف بالبيت العتيق ـ الّذي نادى به الله عزوجل على لسان إبراهيم الخليل في قوله: ( وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) ( [194]) ـ يشهد لذلك، أوليس ذلك قرينة على جواز الصلاة بالجماعة استدارة وإن استلزم في بعض الحالات مواجهة المأموم للإمام؟
قلت: لاشك أنّ المطاف يكون دائرياً وأمّا كون المسجد في عصر النبي إبراهيم (عليه السلام) بني على شكل دائرة فلم يدل عليه دليل. وعلى فرض كونه كذلك لا يكون دليلاً على جواز الصلاة جماعة بالاستدارة.
إلى هنا تمت دراسة الاشكالين المذكورين في كلام الفقهاء وهناك إشكال ثالث.
الثالث: وجود الحائل بين الإمام والمأموم
من شروط صحة الجماعة أن لايكون بين الإمام والمأموم حائل يمنع عن مشاهدته، قال المحقّق: لاتصحّ مع حائل بين الإمام والمأموم يمنع المشاهدة، وقال صاحب «الجواهر»: الظاهر أنّه إجماعي كما في «الذخيرة» بل هو كذلك في صريح «الخلاف» و «المنتهى» و «المدارك».
ويدل عليه صحيح زرارة عن الباقر (عليه السلام) : إن صلّى قوم وبينهم وبين الإمام ما لا يتخطى فليس ذلك الإمام لهم بإمام، وأي صف كان أهله يصلون بصلاة إمام وبينهم وبين الصف الّذي يتقدمهم قدر ما لا يتخطى فليس تلك لهم بصلاة، فإن كان بينهم سترة أو جدار فليست تلك لهم بصلاة، إلاّ من كان من حيال الباب، قال: وقال: هذه المقاصير لم تكن في زمان أحد من الناس وإنّما أحدثها الجبارون، ليست لمن صلّى خلفها مقتدياً بصلاة مَنْ فيها صلاة».( [195])
ووجه الإشكال: أنّ الكعبة المشرفة تحول بين الإمام وكثير من المأمومين الذين يصلّون في النصف الثاني من الدائرة بحيث إنّهم لا يرونه.
ويمكن أن يقال: إنّه لا يشترط مشاهدة جميع المأمومين الإمام، بل يكفي مشاهدة من يشاهده من المأمومين وإن تعددت الوسائط .( [196])
فإذا وقف المأموم في نصف الدائرة الثانية فهو وإن كان لا يشاهد الإمام لأنّ الكعبة تحول بينهما إلاّ أنّه يشاهد الإمام بوسائط ولايقاس المقام بصلاة الإمام بالمقصورة، فإنّ مقصورة المسجد كانت بشكل يحجز عن دخول الغير ولم يكن الإمام مشاهداً مطلقاً وإنّما يطلع المأمومون على أحواله من الركوع والسجود بواسطة تكبير المكبرين.
أضف إلى ذلك انصراف ما دلّ على عدم وجود الحائل عن هذا النوع من الحائل الّذي اقتضته طبيعة صلاة الجماعة في ذلك المكان.
إلى هنا درسنا الإشكالات الثلاثة في المقام، وقد عرفت أنّ الإشكال الثاني أقوى من الأوّل والأخير، فالاقتصار في إقامة الصلاة جماعة على نحو الاستدارة على ما لا يوجد فيه أحد الموانع الثلاثة هو الأحوط.
***
الاستدلال على الصحة بالسيرة
إنّ قسماً من الفقهاء استدلّوا على الصحة بالسيرة وفي مقدّمتهم الشهيد الأوّل في «الذكرى» حيث قال: ولو استداروا صحّ للإجماع عليه عملاً في كل الأعصار السالفة.( [197])
وقد أُيدت السيرة بأنّ أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في عام الفتح بلغوا عشرة آلاف أو أكثر، فكيف يمكن لهم الصلاة فيه بنحو الخط المستقيم ؟
بل بلغ عدد المرافقين في حجة الوداع إلى مائة ألف .
وهذه السيرة الّتي لم يعترض عليها أئمة الشيعة (سلام الله عليهم اجمعين) خير دليل على كونها أمراً مقبولاً عندهم.( [198])
يلاحظ عليه: أنّ كل ما ذكروه حول هذه السيرة نابع عن عدم الوقوف على وقت بدء الصلاة بهذه الكيفية، وقد عرفت أنّ أوّل من أدارها هو خالد بن عبدالله القسري، وأنّ السبب للاستدارة هو ضيق المكان على الناس في صلاة التراويح ولم يكن هذا الملاك موجوداً في الصلوات اليومية.
وأمّا عدم سعة المسجد الحرام للآلاف المؤلفة فهو أمر صحيح لكنّه ليس دليلاً على إقامة الصلاة في المسجد الحرام، بل ربّما أقامها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خارج المسجد، خصوصاً أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أقام خارج مكة يوم فتحها وقد سُئل عن السبب؟ فقال: وهل ترك عقيل لنا منزلاً (في مكة).( [199])
وحقيقة الكلام: أنّ المسجد الحرام لم يكن بهذه السعة ولم يكن أيضاً كافياً حتّى ولو أقاموا الصلاة مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) استدارة، وهذا ابن الجوزي يصف لنا بناء المسجد الحرام ويقول: إنّ المسجد الحرام كان صغيراً ولم يكن عليه جدار إنّما كانت الدور محدقة به، وبين الدور أبواب يدخل الناس من كل ناحية فضاق على الناس المسجد فاشترى عمر بن الخطاب دوراً فهدمها، ثم أحاط عليه جداراً قصيراً، ثم وسع المسجد عثمان بن عفان واشترى من قوم، ثم زاد ابن الزبير في المسجد واشترى دوراً وأدخلها فيه، وأول مَنْ نقل إليه أساطين الرخام وسقفه بالساج المزخرف الوليد بن عبدالملك ثم زاد المنصور في شقه الشامي ثم زاد المهدي، وكانت الكعبة في جانب فأحب أن تكون وسطاً فاشترى من الناس الدور ووسطها، ثم توالت الزيادات فيه إلى يومنا هذا .( [200])
تم الكلام في مسألة الصلاة جماعة بالاستدارة
وعلى ذلك فيجب أن تكون الدائرة الّتي يقف عليها المأمومون أكبر من الدائرة الّتي قام عليها الإمام، أي أبعد عن الكعبة في جميع النقاط، وإلاّ فمجرد كون الفاصل المكاني بين المأموم والكعبة أكبر منه بين الإمام والكعبة، لا يكفي ـ كما هو الظاهر من الكلمات الماضية ـ مالم يكن الفصل على حّد يكون الفصل أكبر في عامة الحالات، وهذا كما في الرسم التالي.
الكعبة المشرفة
l
l
l
l
موقف الإمام
موقف المأمومين
فإن الشرط ـ أعني: عدم تقدم المأموم ـ محفوظ في جميع الحالات.
وبذلك يعلم أنّ مجرّد كون المأموم خلفاً أو جانباً بحسب الدائرة البركاليّة، لا يلازم عدم أقربيّته إلى الكعبة من الإمام، ضرورة زيادة جوانب الكعبة بل لابد أن تكون الدائرة الّتي وقف عليها المأموم أوسع من الدائرة الّتي وقف عليها الإمام على نحو يكون الإمام أقرب إلى الكعبة من المأموم في عامة الحالات كما هو ظاهر في الرسم المتقدّم .
وأمّا لو كان الميزان في التقدم هو نفس موقف الإمام مع قطع النظر عن الأقربية والأبعدية بالنسبة إلى الكعبة، فحينئذ لو وقف المأمومون على نفس الدائرة الّتي وقف عليها الإمام لصدق عدم التقدم، وهذا واضح، مثلاً: لو أمر الضابط الجنود أن يقفوا بشكل دائري، فوقفوا على خط دائري جنباً إلى جنب، فيصدق عدم تقدّم أحدهم على الآخرين.
وإلى ما ذكرنا يشير صاحب الجواهر بقوله: بإمكان دعوى صدق الخلْف أو الجانب، إذ هما بالنسبة إلى كل واحد بحسبه ولو بملاحظة الدائرة البركالية .( [192])
والمتبادر من معاقد الاجماعات والإشارات الواردة في الروايات أنّ الميزان عدم تقدّم المأموم على موقف الإمام من دون لحاظ الجهة الّتي يتّجهان لها.
وبعبارة أُخرى: الملاك في تحقّق هذا الشرط موقف كل من الإمام والمأموم في غير المسجد الحرام باتفاق الفقهاء، فلابد أن يكون هو نفس الملاك في المسجد الحرام أيضاً، وإلاّ يجب أن يلتزم بأحد أمرين:
1. أن يكون الملاك في غير المسجد الحرام هو موقف الإمام والمأموم، وأمّا في المسجد الحرام فالملاك هو الكعبة بأن لا يكون المأموم أقرب إلى الكعبة من الإمام.
2. مراعاة كلا الأمرين.
والأوّل أمر غريب لعدم الدليل على التفريق بين المسجد الحرام وسائر الأمكنة، والثاني موافق للاحتياط ولكن ليس لاعتبار الجمع دليل صالح.
وبذلك يظهر أنّ مشكلة تقدّم المأموم على الإمام في الصلاة الاستدارية إمّا غير متحقّق مطلقاً إذا قلنا بأنّ الميزان هو ملاحظة موقف الإمام، وإمّا غير متحقّق في بعض الدوائر ومتحقّق في البعض الآخر.
الثاني: إشكال المواجهة
الإشكال الثاني في المسألة هو لزوم المواجهة بأن يكون المأموم مواجهاً للإمام دون أن يكون في جنبه أو خلفه، وتظهر المواجهة بوضوح في النصف الثاني من الدائرة، مع أنّه أمر غير معهود، ولذلك اشترط بعض القائلين بالجواز بكون استقبال الإمام والمأمومين إلى جهة واحدة. إذ لو قيل بالجواز مطلقاً يلزم جواز الجماعة في داخل الكعبة على التعاكس بأن يكون وجه كل منهما إلى الآخر وهو ممّا لا مجال للالتزام به .( [193])
والحق أنّ هذا الاشكال يستحق التأمّل، وما دلّ على جواز إقامة الصلاة جماعة منصرف إلى الفرد الشائع ، وأما هذا الفرد النادر فإطلاق الأدلة على فرض وجوده منصرفة عنه.
فإن قلت: إنّ الشكل الهندسي للمسجد الحرام كان دائرياً منذ أن بنيت الكعبة من قبل نبي الله إبراهيم (عليه السلام) ، لأنّ الطواف بالبيت العتيق ـ الّذي نادى به الله عزوجل على لسان إبراهيم الخليل في قوله: ( وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) ( [194]) ـ يشهد لذلك، أوليس ذلك قرينة على جواز الصلاة بالجماعة استدارة وإن استلزم في بعض الحالات مواجهة المأموم للإمام؟
قلت: لاشك أنّ المطاف يكون دائرياً وأمّا كون المسجد في عصر النبي إبراهيم (عليه السلام) بني على شكل دائرة فلم يدل عليه دليل. وعلى فرض كونه كذلك لا يكون دليلاً على جواز الصلاة جماعة بالاستدارة.
إلى هنا تمت دراسة الاشكالين المذكورين في كلام الفقهاء وهناك إشكال ثالث.
الثالث: وجود الحائل بين الإمام والمأموم
من شروط صحة الجماعة أن لايكون بين الإمام والمأموم حائل يمنع عن مشاهدته، قال المحقّق: لاتصحّ مع حائل بين الإمام والمأموم يمنع المشاهدة، وقال صاحب «الجواهر»: الظاهر أنّه إجماعي كما في «الذخيرة» بل هو كذلك في صريح «الخلاف» و «المنتهى» و «المدارك».
ويدل عليه صحيح زرارة عن الباقر (عليه السلام) : إن صلّى قوم وبينهم وبين الإمام ما لا يتخطى فليس ذلك الإمام لهم بإمام، وأي صف كان أهله يصلون بصلاة إمام وبينهم وبين الصف الّذي يتقدمهم قدر ما لا يتخطى فليس تلك لهم بصلاة، فإن كان بينهم سترة أو جدار فليست تلك لهم بصلاة، إلاّ من كان من حيال الباب، قال: وقال: هذه المقاصير لم تكن في زمان أحد من الناس وإنّما أحدثها الجبارون، ليست لمن صلّى خلفها مقتدياً بصلاة مَنْ فيها صلاة».( [195])
ووجه الإشكال: أنّ الكعبة المشرفة تحول بين الإمام وكثير من المأمومين الذين يصلّون في النصف الثاني من الدائرة بحيث إنّهم لا يرونه.
ويمكن أن يقال: إنّه لا يشترط مشاهدة جميع المأمومين الإمام، بل يكفي مشاهدة من يشاهده من المأمومين وإن تعددت الوسائط .( [196])
فإذا وقف المأموم في نصف الدائرة الثانية فهو وإن كان لا يشاهد الإمام لأنّ الكعبة تحول بينهما إلاّ أنّه يشاهد الإمام بوسائط ولايقاس المقام بصلاة الإمام بالمقصورة، فإنّ مقصورة المسجد كانت بشكل يحجز عن دخول الغير ولم يكن الإمام مشاهداً مطلقاً وإنّما يطلع المأمومون على أحواله من الركوع والسجود بواسطة تكبير المكبرين.
أضف إلى ذلك انصراف ما دلّ على عدم وجود الحائل عن هذا النوع من الحائل الّذي اقتضته طبيعة صلاة الجماعة في ذلك المكان.
إلى هنا درسنا الإشكالات الثلاثة في المقام، وقد عرفت أنّ الإشكال الثاني أقوى من الأوّل والأخير، فالاقتصار في إقامة الصلاة جماعة على نحو الاستدارة على ما لا يوجد فيه أحد الموانع الثلاثة هو الأحوط.
***
الاستدلال على الصحة بالسيرة
إنّ قسماً من الفقهاء استدلّوا على الصحة بالسيرة وفي مقدّمتهم الشهيد الأوّل في «الذكرى» حيث قال: ولو استداروا صحّ للإجماع عليه عملاً في كل الأعصار السالفة.( [197])
وقد أُيدت السيرة بأنّ أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في عام الفتح بلغوا عشرة آلاف أو أكثر، فكيف يمكن لهم الصلاة فيه بنحو الخط المستقيم ؟
بل بلغ عدد المرافقين في حجة الوداع إلى مائة ألف .
وهذه السيرة الّتي لم يعترض عليها أئمة الشيعة (سلام الله عليهم اجمعين) خير دليل على كونها أمراً مقبولاً عندهم.( [198])
يلاحظ عليه: أنّ كل ما ذكروه حول هذه السيرة نابع عن عدم الوقوف على وقت بدء الصلاة بهذه الكيفية، وقد عرفت أنّ أوّل من أدارها هو خالد بن عبدالله القسري، وأنّ السبب للاستدارة هو ضيق المكان على الناس في صلاة التراويح ولم يكن هذا الملاك موجوداً في الصلوات اليومية.
وأمّا عدم سعة المسجد الحرام للآلاف المؤلفة فهو أمر صحيح لكنّه ليس دليلاً على إقامة الصلاة في المسجد الحرام، بل ربّما أقامها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خارج المسجد، خصوصاً أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أقام خارج مكة يوم فتحها وقد سُئل عن السبب؟ فقال: وهل ترك عقيل لنا منزلاً (في مكة).( [199])
وحقيقة الكلام: أنّ المسجد الحرام لم يكن بهذه السعة ولم يكن أيضاً كافياً حتّى ولو أقاموا الصلاة مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) استدارة، وهذا ابن الجوزي يصف لنا بناء المسجد الحرام ويقول: إنّ المسجد الحرام كان صغيراً ولم يكن عليه جدار إنّما كانت الدور محدقة به، وبين الدور أبواب يدخل الناس من كل ناحية فضاق على الناس المسجد فاشترى عمر بن الخطاب دوراً فهدمها، ثم أحاط عليه جداراً قصيراً، ثم وسع المسجد عثمان بن عفان واشترى من قوم، ثم زاد ابن الزبير في المسجد واشترى دوراً وأدخلها فيه، وأول مَنْ نقل إليه أساطين الرخام وسقفه بالساج المزخرف الوليد بن عبدالملك ثم زاد المنصور في شقه الشامي ثم زاد المهدي، وكانت الكعبة في جانب فأحب أن تكون وسطاً فاشترى من الناس الدور ووسطها، ثم توالت الزيادات فيه إلى يومنا هذا .( [200])
تم الكلام في مسألة الصلاة جماعة بالاستدارة
المصدر
http://shiastudies.net/article/arabic/Article.php?id=8580
No comments:
Post a Comment